عاشت الإنسانية بمختلف أديانها وأعراقها وثقافاتها مرحلة اقتصادية مفصلية من تاريخها تعرف باقتصاديات الغزو والحروب، يمثل فيها الغزو عنصرا أساسيا للوجود ومقوما من مقومات الحياة والعيش، ومن خلال الغزو والحروب وما ينتج عنها تتشكل طبقات المجتمع وتتحدد معاييره وقيمه، فالمجتمع البشري القائم اقتصاديا على الغزو والحرب يفرض على أفراده عدم المساواة. عدم مساواة بين الرجل والرجل وبين الرجل والمرأة وبين المرأة والمرأة. ومن الخطأ الجسيم أن نحاكم مجتمعا يعيش وفق معايير الغزو والحرب بمعايير العصر الحديث، عصر المجتمعات الصناعية وعصر المجتمعات القائمة على التقنية، فالمجتمعات البشرية تبرمج نفسها بصورة لا واعية مع نمط الاقتصاد الذي يحكمها، وهي مسألة غير اختيارية يفرضها نمط الاقتصاد على أفراد المجتمع دون الحاجة لجلسات دراسية عن التنوير والحداثة، أو الاستماع لمحاضرات متخصصي النقد الحضاري والعلاجات الجاهزة التي يقدمونها لإخراج المجتمعات من الظلمات إلى النور. دعونا نطرح قضية وأد البنات في العصر الجاهلي من منظور الاقتصاد وأنماطه المتعددة، فالمجتمع الجاهلي عاش حقبة الاقتصاد القائم على الغزو والحرب، وهي حقبة مرت بها كل شعوب وأمم العالم دون استثناء، فالغزو لم يكن اختراعا جاهليا بل هو صيرورة اقتصادية وأسلوب حياة لا اختياري، لذلك فرض على أفراد المجتمع أن تتعايش معه وتتبنى قيمه ومفاهيمه في سبيل البقاء على قيد الحياة. ساهم اقتصاد الغزو في تشكيل المجتمع القديم وطبقاته والفروق الاجتماعية بين أفراده، وبلا شك أن أحد نتائجه صناعة فوارق مجتمعية بين الذكر والأنثى، فقد كان الناس في المجتمعات القائمة على الغزو والزراعة يؤثرون البنين على البنات بسبب الدور الذي يلعبه الرجل في الحياة السياسية والاقتصادية، ويتمثل هذا الدور في الغزو والحروب التي لا تلعب فيها المرأة دورا محوريا، وقد تطرق بعض الآيات القرآنية لحالة الضيق التي تنتاب الأب عندما يبشر بقدوم مولودة له كقوله تعالى {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم}. فهل حالة الضيق والحزن التي تنتاب الأب حين يبشر بالأنثى، تعد سببا كافيا لارتكاب جريمة بشعة مثل الوأد؟ إن ظاهرة الوأد لا يعرف لها تاريخ نشأة محدد، ولا يعرف لها أسباب واضحة، وفي غالب الظن أنها لم تكن ظاهرة شائعة في المجتمع، وإن وجدت فهي حالات فردية واستثنائية لا أسباب واضحة ومحددة لها، ولو كانت ظاهرة منتشرة في المجتمع الجاهلي، فإن أول نتائجها حدوث تشوه في التركيب السكاني في المجتمع مما يؤدي لحدوث اختلالات بين الجنسين، وهذه الاختلالات ستؤسس لأزمة زواج في المجتمع المصاب بهذه الاختلالات لعدم وجود عرائس للزواج، وهذه الأزمة ستتبعها أزمات مرافقة كانتشار جرائم الخطف والاتجار بالنساء. هناك تحيزات واضحة تجاه المجتمع الجاهلي ومحاولة لشيطنة هذا المجتمع وكأن أفراده قساة ووحوش يتصفون بالهمجية لدرجة ارتكاب جرائم لا أخلاقية كجريمة الوأد دون أسباب مقنعة أو بحجة العار، وهذا الحجج الواهية لا يوجد ما يسندها من أدلة وإثباتات تاريخية، وفي عصر البعثة النبوية وعند نزول الآيات القرآنية التي تمنع قتل الأطفال لم نلاحظ رفضا مجتمعيا لهذه الآيات، ولم نقرأ عن أي حادث من نوع الوأد في عصر النبي حتى بين القبائل التي ظلت على دينها القديم، ولو كان منتشرا على نطاق واسع لانقطع نسلهم ولما وجدنا إلا عددا قليلا من العرب سواء أكانوا ذكورا أو إناثا، ولا كان العرب في هذا العدد العظيم عندما نهضوا بالدعوة الإسلامية. عموما كل الآيات القرآنية التي تناولت قضية قتل الأطفال أرجعتها إلى سبب اقتصادي محض وهو الفقر وضيق ذات اليد وتحديدا في سنوات القحط. يقول تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم}، ولم يحدد في الآية الجنس لأن عملية قتل الأطفال بسبب العامل الاقتصادي ليست انتقائية، فقد يكون ضحيتها الذكور والإناث على حد سواء، وللأسف الشديد أن هذه الجرائم لا زالت مستمرة عند إنسان العصر الحديث الذي يبرر لنفسه عمليات القتل الجماعي للتخلص من الأعداد الكبيرة من البشر، تفاديا لحصول مجاعات أو انفجارات سكانية تنتج عنها أزمات اقتصادية في العمل والسكن والحياة. يربط البعض قضية وأد البنات بمفهوم العار، وفي ظني أن هذا سبب غير منطقي لأن المولودة الحديثة لم ترتكب أي خطيئة بعد، ومفهوم العار نفسه يحتاج لتوضيح وتفصيل حتى نعرف ماهية العار في المجتمعات القديمة التي عاشت زمن الغزو الدائم والمستمر، فالعار في تلك المجتمعات يرتبط جملة وتفصيلا بالغزو والحرب بين القبائل والشعوب فيما بينها، والتي ستكون نتيجتها الطبيعية حصول الأسر والسبي، وأسرى الغزو كانوا يمثلون الأيدي العاملة في المجتمعات القائمة على الغزو والزراعة، فتجارة الرق هنا تمثل مصدرا مهما للأيدي العاملة أو الموارد البشرية حسب مفهوم الاقتصاد الحديث، لذلك تكمن الأسباب الاجتماعية للعار من خوف الأب من وقوع ابنته في السبي أو الأسر عند قبيلة أو جماعة غازية، فالعار مرتبط هنا بعجز الأب أو القبيلة عن حماية أفرادها. وفي أزمنة الحرب يقع مفهوم العار في الإطار الاجتماعي، خوف الأب على ابنته من الذل والهوان والاستجداء بعد وفاته، أو إشفاقا عليها أن تكون سبية في أيدي اللئام فتتعرض للابتذال والمهانة، وفي هذا الشأن يقول الشاعر أبو خالد القناني حين رفض الغزو مخافة أن تبقى بناته بلا راع يرعاهم وحام يحميهم: لقد زاد الحياة إلى حبا بناتي إنهن من الضعاف مخافة أن يرين البؤس بعدي وأن يشربن رنقا بعد صاف وأن يعرين إن كسي الجواري فتنبو العين عن كرم عجاف. ويقول الشاعر إسحاق بن خلف في قصيدة عبر فيها عن خوفه على ابنته أميمة: لولا أميمة لم أجزع من العدم ولم أجب في الليالي حندس الظلم وزادني رغبة في العيش معرفتي ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحم أحاذر الفقر يوما أن يلم بها فيهتك الستر من لحم على وضم.
مشاركة :