تحدثنا في مقال سابق عن تحديات وصعوبات تربية الأبناء، وكيف يمكن أداء وظيفة الأب والأم دون أن نتماهى مع هذه الوظيفة، أي من دون أن نحولها إلى دور، ألا تصبح الأبوة هوية وألا يصبح شعوري بذاتي مشتقا كليا أو جزئيا منها، مما يؤدي إلى تضخيم هذه الوظيفة والمبالغة بها، فيتحول واجب إخبار الطفل بما عليه وبما ليس عليه فعله إلى حاجة أبوية كالسيطرة والهيمنة، فخطورة ذلك أن هوية لعب دور الوالد تستمر لفترة طويلة حتى بعد زوال الحاجة إليها، فلا يستطيع الوالدان التخلي عن حاجتهما إلى حاجة أبنائهما لهما. ورأينا كيف ينصح علماء النفس الأبناء بأن لا يواجهوا آباءهم بذلك، بأنهم غير واعين، وأن (الأنا) التي فيهم تسيطر على طريقة تعاملهم مع أبنائهم، لأن ذلك على الأغلب سيزيد من حالة اللاوعي لديهم، وستجد (الأنا) طريقة لتقوي موقفها داخليا بالتبرير وستتخذ موقفا دفاعيا فتعمق هذه الممارسات على مستوى العقل اللاواعي. إن كل ما هو مطلوب منك (كأب أو أم) أن تدرك أن هذه هي (الأنا) التي تتحدث إليك، وعندما تدرك ذلك فإن قدرتها في التأثير عليك تتلاشى بمجرد الوعي بأنها هي المحرك لكل هذه الأفعال، عندها فقط ستجد نفسك قادرا على تقبل سلوكهم بكل تعاطف وأريحية وسكون وعدم الحاجة إلى القيام بأي رد فعل تجاه هذا السلوك. إنه الوعي، يقظة الوعي هي التي ستحررك من كل هذا وستحررك كذلك من جميع الأفكار السلبية التي قد تكون ما زالت عالقة في مخيلتك. تتجسد لك أفكار شاردة بين الحين والآخر وهي صدى كلمات قيلت لك في صغرك من والديك مثل لن "تفلح في شيء" أو "أنت غبي" أو "أنت فاشل" أو العكس مثل الإطراء الزائد غير المبرر وغير الواقعي، وهي كذلك مؤذية وسلبية في تأثيرها على الطفل مثل "ستكون الأفضل والأنجح، فإنك طفل استثنائي وليس أحد مثلك". عدت أدراجي أسأل نفسي كيف يجب أن أربي أبنائي؟ ما هو الشيء الذي يحتاجونه أكثر من أي شيء آخر؟ بحثت وتعمقت وقرأت ووصلت إلى هذه النتيجة.. إن أبناءنا في أمسّ الحاجة إلى علاقة أصيلة مبنية على احترام كينونتهم، أن أتواجد معهم ككيان بشري، كإنسان وكيان لا كدور، بغض النظر عن النية التي ترافق هذا الدور. أدركت أني كنت أركز أكثر على الاهتمام بمتابعة المهام والقيام بالواجبات والفروض والصلوات، دائما أسأل: هل أديت واجبك؟ هل صليت فرضك؟ هل تناولت طعامك؟ وبالرغم من أهمية كل ذلك لكني أدركت أنه غير كاف على الإطلاق، فالبعد الأهم هو بعد الكينونة، أن تنظر إلى طفلك أن تراه كما هو عليه، أن تستمع حقا إليه بكل شغف واهتمام، أن تكون موجودا متواجدا بكيانك بكينونتك بجسدك وروحك وعقلك، عيناك تقولان له: إني أراك، وأذنك تقول له: إني أسمعك وأستمع إليك، وكلي آذان صاغية، وكذلك تقول له: إني أقدرك وأحترمك كإنسان وكيان. أن أبني علاقة قائمة على احترام ابني كإنسان له كيانه، فنحن متساويان على مستوى الكينونة.. نعم إنني الآن أعرف أكثر منه بحكم عمري، ولكن معاملتي له على مستوى الكينونة لن تجعله يشعر بالدونية تجاهي ولو بصورة غير واعية، وهنا يتحقق الحب الحقيقي والعلاقة الأصيلة، إنه الحضور، الذات الحقيقية التي فيَّ تتواصل مع نفسها في الآخر، وفي هذه الحالة سيشعر طفلي بالحب وبالقيمة، هذا هو الحب الحقيقي أن تعرف نفسك في الآخر. وجدت من خلال بحثي أن الإفراط والتفريط كلاهما لهما أضرار جسيمة، فالمبالغة في إطراء الطفل وتلبية طلباته وانعدام فرض انضباط كاف يؤدي إلى تغذية (الأنا)، بل وزيادة حدوث النرجسية، وكذلك الحال في الحب التملكي والتحكم الزائد والهيمنة والسيطرة والتهميش، ووجدت أن أفضل أنواع التربية هي بالقدوة المتزنة التي تقول ما تفعل وتفعل ما تقول، وإعطاء الطفل المساحة الكافية للنمو والتطور وصنع القرار والخيار ما دام لا يتعارض مع سلامة الطفل ومع المبادئ والأخلاق. وجدت أن التربية المتناقضة بين الإفراط والتفريط هي من أحد الأسباب الرئيسية لزيادة معدلات الإصابة بمرض النرجسية حول العالم بأرقام مرعبة ليصبح أشبه بالوباء، والنرجسية هي صورة من صور تضخيم الأنا وتنسب إلى الأسطورة اليونانية لرجل يدعى (نارسيس) كان آية في الجمال، فعشق نفسه وأطال النظر لانعكاس وجهه الجميل في الماء، وأراد يوما أن يلمس جماله فقفز في البحيرة التي اعتاد أن يجلس عندها طويلا فغرق ومات، فظهرت في مكان جلوسه وردة النرجس، كم من الأناس النرجسيين يقضون أعمارهم أمام المرآة وهم نتاج تربية غير متوازنة وضحية (الأنا) ليصبحوا مرضى بالنرجسية. وقد وجدت عشرات الدراسات التي تؤكد حقيقة زيادة معدلات الإصابة بمرض النرجسية حول العالم، ومن هذه الدراسات دراسة حديثة من جامعة سان ديجوSan Diego State University قام بها البروفيسور جي توينج بتحليل معلومات 15.000 طالب جامعي في أميركا أجابوا عن أسئلة اختبار النرجسية يسمونه Narcissistic Personality Inventory قبل عام 2006، فوجد أن عدد الإجابات التي تعكس صفات النرجسية استمر في الصعود على مدى ثلاثة عقود، وتم توثيق نتائج هذه الدراسة في كتابNarcissism Epidemic Living in the Age of Entitlement. وصلت أخيرا إلى نهاية رحلتي مع الأنا والآباء والأبناء.. أولادنا في أمسّ الحاجة إلى مساحة كافية لكي يحققوا أنفسهم، وقد تكون فكرتنا أننا أعلم بما فيه خير لهم فكرة صحيحة في مرحلة الطفولة، ولكن صحتها تقل شيئا فشيئا كلما كبروا، وقد يكون ما نعتبره خطأ هو أفضل شيء لهم لصقل تجربتهم وإخراج مواطن الإبداع فيهم، حتى أخطاؤهم التي قد تسبب لهم ولنا آلاماً قد تكون هي نار الألم التي ستصبح نور الوعي بالنسبة لهم. قررت أن أمنح أولادي المساحة الكافية لكي يحققوا أنفسهم فقد جاؤوا للدنيا من خلالنا ولكنهم ليسوا ملكنا، تذكرت ما قرأته لجبران خليل جبران قبل عقدين من الزمان عن التربية والآباء والأبناء فعدت إليه يقول جبران خليل جبران: "أطفالكم ليسوا أطفالكم، إنهم أبناء الحياة وبناتها في اشتياقها إلى ذاتها، من خلالكم يأتون للعالم لكنهم ليسوا منكم، ورغم أنهم معكم إلا أنهم لا ينتمون إليكم، يمكنكم أن تمنحوهم محبتكم لكن ليس أفكاركم فلهم أفكارهم، يمكنكم أن تقدموا مأوى لأجسادهم لا لأرواحهم لأن أرواحهم تسكن في بيت الغد، ذلك الذي لا تستطيعون زيارته حتى ولا في أحلامكم، يمكنكم أن تجاهدوا لتصيروا مثلهم ولكن لا تحاولوا أن تجعلوهم مثلكم، لأن الحياة لا تعود إلى الخلف ولا تتوقف عند الأمس".
مشاركة :