لم يفرق وباء "كوفيد-19" بين الأثرياء والفقراء أو العامة والمسؤولين، فمن ضمن المصابين بالفيروس كان هناك آلاف من المشاهير والأثرياء وحتى الوزراء ورؤساء الدول. لكن في حين أنه كان عادلاً في توزيع خطره على الجميع، فإن تداعياته الاقتصادية لم تكن تتمتع بنفس العدالة. رابحون وخاسرون - رغم دخول الاقتصاد العالمي حالة غير مسبوقة من الركود في العام الحالي بفعل ضربة وباء "كورونا"، فإن الأثرياء نجحوا في التعافي سريعاً بل وتحقيق مكاسب مالية قياسية. - حقق المليارديرات في الولايات المتحدة مكاسب مالية كبيرة في الستة أشهر الأخيرة التي شهدت تفشي وباء "كورونا"، في الوقت الذي عانى فيه ملايين الأشخاص من تراجع الدخل وفقدان الوظائف. - تمكن أغنى 643 أمريكيا من إضافة 845 مليار دولار إلى ثرواتهم مجتمعة في الفترة بين الثامن عشر من شهر مارس الماضي وحتى الخامس عشر من سبتمبر، ما يمثل زيادة 29% لقيمة الثروة. - ارتفعت ثروة الأغنياء في الولايات المتحدة من 2.95 تريليون دولار إلى 3.8 تريليون دولار في نحو ستة أشهر، ما يعني مكاسب بقيمة 141 مليار دولار كل شهر أو 32 مليار دولار أسبوعياً أو 4.7 مليار يومياً. - أكثر ثلاثة مليارديرات حققوا مكاسب في هذه الفترة – جيف بيزوس ومارك زوكربيرج وإيلون ماسك – شهدوا ارتفاعاً لصافي ثرواتهم مجتمعة بنحو 137 مليار دولار، بينما سجلت ثروة "دان جيلبرت" مالك شركة "كويكن لونز" زيادة بنسبة 672% لترتفع من 6.5 مليار دولار إلى ما يزيد على 50 مليار دولار. - لكن على الجانب الآخر من الطاولة يقف ملايين الأمريكيين الذين تسبب الوباء في فقدانهم للوظائف أو تراجع الدخل. - تراجع متوسط أجر أقل 82% من العمال الأمريكيين من حيث الدخل بنحو 4.4% في الفترة من منتصف شهر مارس وحتى أغسطس الماضي. - لم تقتصر معاناة العامة في الولايات المتحدة على تراجع الدخل، لكن أكثر من 50 مليون شخص فقدوا وظائفهم جراء تداعيات الوباء، ورغم التعافي النسبي فإن 14 مليونا لا يزالون ضمن قوائم العاطلين. - ظهرت تبعات الأزمة في معاناة 30 مليونا أمريكيا من الجوع، وفقدان نحو 12 مليون شخص التأمين الصحي المدعوم من العمل. - يشير ارتفاع ثروات الأغنياء ومعاناة الفقراء إلى اتساع للفجوة في الدخل بين الجانبين وظهور الفارق الصارخ بين أرباح المليارديرات والبؤس الاقتصادي للعامة. - القلق يتمثل في أن الفوارق بين الأثرياء والفقراء لن تقتصر فقط على فجوة الدخل، لكن سيكون لدى قلة من الناس قدر هائل من القوة لتشكيل الاقتصاد والسياسة مستقبلاً. لماذا تفوق الأثرياء؟ - جاء الصعود في ثروات المليارديرات بدعم ارتفاع قيمة شركاتهم والتعافي القوي لسوق الأسهم من القاع المسجل في ذروة الوباء في مارس الماضي، بفضل حزم تحفيز قوية من جانب الحكومات والبنوك المركزية قدمت دعماً ملحوظاً للشركات الكبرى والأسواق المالية. - يشير مؤشر "بلومبرج" للأثرياء إلى أن ثمانية من أكثر عشرة أشخاص تحقيقاً للمكاسب منذ بداية عام 2020 يمتلكون أعمالاً في قطاع التكنولوجيا والذي استفاد بشكل واضح من تداعيات الوباء وسياسات التباعد والعمل والدراسة من المنزل. - حقق "إريك يوان" المؤسس لشركة "زووم" المالكة لتطبيق الاجتماعات عبر الفيديو ارتفاعاً لصافي ثروته بنسبة 400% لتسجل 18 مليار دولار، مع قفزة لسعر السهم بدعم التسارع الحاد في عدد المستخدمين بفعل ضربة الوباء. - وبشكل عام، شهد مؤشر "إس آند بي 500" ارتفاعاً بأكثر من 50% منذ المستوى المتدني المسجل في منتصف مارس الماضي، كما سجلت أسهم الشركات المملوكة للمليارديرات مثل أمازون ومايكروسوفت وفيسبوك وتسلا صعوداً ملحوظاً. - يبدو الأثرياء الأكثر استفادة من صعود سوق الأسهم، مع حقيقة أن أغنى 10% من الأمريكيين يمتلكون 87% من أسهم الشركات ووثائق صناديق الاستثمار. - كرر الأثرياء استفادتهم السابقة من التدابير التي تم إقرارها بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008 والمتمثلة في الأموال الرخيصة التي ضختها البنوك المركزية بقيادة بنك الاحتياطي الفيدرالي والمركزي الأوروبي وغيرهما. - تسببت عمليات خفض الفائدة لمستويات قياسية متدنية وضخ السيولة في صعود حاد لأسعار فئات الأصول المختلفة والتي تشمل الأسواق المالية والعقارات، بالإضافة إلى الأسهم الخاصة والتي شهدت مكاسب كبيرة لصالح الأثرياء الأكثر تعاملاً فيها. - مكاسب الأثرياء جاءت أيضاً بدعم استفادتهم من القوى المشتركة للرقمنة والعولمة والتي تكافئ أصحاب رؤوس الأموال والمقربين منهم، في حين يتخلف المعتمدون على الأجور الثابتة عن الركب. للتفاوت وجوه كثيرة - الأمر لا يقتصر على الأثرياء فحسب، لكن الأزمة الحالية يبدو أنها لم تؤثر على أصحاب ما يطلق عليه وظائف اقتصاد المعرفة ذات الأجور المرتفعة والتي أثبتت قدرتها على التكيف مع العمل من المنزل. - وبينما نجح العاملون في مجالات تتطلب تعليماً مرتفعاً وتمنح أجوراً عالية في الحفاظ على أعمالهم أو استعادتها بسرعة في عصر الوباء والتباعد الاجتماعي، فإن موظفي قطاعات الضيافة والتجزئة والصناعة وغيرها تأثروا سلباً بالأزمة. - وعلى الجانب الآخر، كان الملونون والنساء والعمال الأقل تعليماً ضمن الفئات الأكثر تضرراً من تداعيات الأزمة والأقل قدرة على الوفاء بالاحتياجات الأساسية من الطعام إلى تكاليف السكن. - وبلغت ذروة معدل البطالة بين الأمريكيين الذين لا يمتلكون شهادة المدرسة العليا "الثانوية" نحو 21% في أبريل الماضي، ما يعادل ثلاثة أمثال المسجل بالنسبة للحاصلين على شهادة جامعية. - وتميل الأوبئة تاريخياً إلى ترك آثار أكثر قسوة على العمال الأقل مهارة والذين يمتلكون مستويات أساسية من التعليم، في حين يكون التأثير ضعيفاً على وظائف الحاصلين على درجات علمية متقدمة. - وارتفع معامل جيني الذي يرصد التفاوت في الدخل بشكل ملحوظ في أعقاب خمسة أوبئة ظهرت في القرن الحادي والعشرين وهي "سارس" و"إنفلونزا الخنازير" و"متلازمة الشرق الأوسط التنفسية" و"إيبولا" و"زيكا". - زيادة التفاوت في الثروة بعد الأزمات الصحية بصفة خاصة يأتي رغم جهود الحكومات لإعادة توزيع الدخل من الأغنياء إلى الفقراء، بفعل عمليات فقدان الوظائف وصدمات الدخل وتراجع فرص العمل بالنسبة للأقل تعليماً والعاملين في الوظائف الأدنى دخلاً. - كان للأوبئة تأثير متباين بشكل ملحوظ على عمليات التوظيف بناءً على المستويات المختلفة من التعليم والتي تعد أحد مؤشرات المهارات الشخصية في سوق العمل، فالحاصلون على مستوى تعليمي متقدم نادراً ما تتأثر وظائفهم بعد الأوبئة، في حين أن وظائف الأقل تعليماً تنخفض بشكل ملحوظ. - الواقع أن الأزمة الحالية لم تتمخض عن اتساع الفوارق بين مكاسب الأثرياء وخسائر الأقل دخلاً فحسب، لكن الأمر تطور إلى أبعد من ذلك. - قامت الدول الغنية والتي تمثل 13% من عدد سكان العالم بالاتفاق على شراء أكثر من نصف الجرعات الخاصة باللقاحات المحتملة ضد وباء "كوفيد-19"، مع حقيقة أن الشركات المنتجة لا تمتلك الطاقة الإنتاجية الكافية لتوفير هذه اللقاحات لكل المحتاجين لها. - وتشير التقديرات الأكثر تفاؤلاً إلى أنه حتى في حال نجاح تجارب تطوير كل اللقاحات الخمسة التي دخلت مراحل التجارب النهائية حالياً، فإن 61% من سكان العالم لن يحصلوا على اللقاح حتى عام 2022 على الأقل. - تظهر الأزمة الحالية أن الأثرياء والعاملين في الوظائف الأعلى دخلاً والتي تتطلب مستويات تعليمية ومهارات أكبر استفادوا من الأزمة بشكل ما، في حين تركز العبء بأكمله على الفقراء والأقل تعليماً ودخلاً.
مشاركة :