همة عالية توارثتها الأجيال، إتقان أوصلهم إلى القمة، من خلال برامج تدريبية وتطويرية وعمل مؤسساتي عالي الجودة، خلال 90 عامًا صنعت الهمة أياد تلتف بالحرير، وتقاس بوزنها ذهبًا، هذا ما يتذكره زائر مجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة المشرفة، عندما يشاهد رجالًا أمضوا أكثر من ثلاثة عقود مع الخيوط الحريرية والقطنية وإبر الخياطة، فن توارثته الأجيال جيلًا بعد جيل بعد أن شرعت المملكة أبواب الصناعة لكسوة الكعبة. وكرست الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الهمة وعشق القمة وتحدي الصعاب، للعاملين لديها بمجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة المشرفة، والذين يصل عددهم إلى 218 شخصًا، من خلال برامج تدريبية ودورات تأهيلية مكثفة، نتج عنها العديد من الإنجازات على أيد مهرة. هؤلاء الرجال بدأت قصتهم شغفًا وانتهت هيامًا، شرفهم الله -عز وجل- بما يحلم به كل مسلم، العمل بخياطة كسوة الكعبة المشرفة وفكها وتركيبها يوم استبدال كسوة الكعبة الذي يوافق كل عام اليوم التاسع من ذي الحجة. تعاون كبير حول هذا التشريف وعظم العمل يقول فهد عودة العويضي -أحد العاملين في خياطة ثوب الكعبة المشرفة بمجمع الكسوة-: أمضيت 36 عاماً وأنا أعمل بالمجمع، كنت حين أزور المسجد الحرام يستوقفني كثيرًا ثوب الكعبة المشرفة، وأتساءل كيف يتم خياطته وتركيبه؟ ولكني لا أجد أي جواب، وفي العام 1406هـ حضرت إلى الحرم المكي وقت تبديل الثوب وشاهدت مراحل الفك والتركيب، وبعد الانتهاء منها تقدمت لأحد العاملين حينها في تبديل الثوب، وطرحت عليه الكثير من الأسئلة وكان يجيب عن كل سؤال من دون تردد، فمن بين الأسئلة التي وجهتها له عن المكان الذي تصنع فيه الكسوة وكيف يمكن المشاركة في هذا العمل؟ وجهني بالذهاب إلى الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، ومقابلة المسؤولين والتقدم بطلب توظيف، وفي اليوم التالي توجهت إلى الرئاسة العامة وكانت العملية سهلة جدًا، رحبوا بي، وكان الاتفاق معهم على التدريب مدة ستة أشهر فإذا اجتزت الدورة سوف أكون أحد العاملين بالمصنع، وفي حال عدم الاجتياز سوف تعاد لي الدورة، وفي حالة التعثر للمرة الثانية لن يتم قبولي للعمل، مضيفاً: دخلت الدورة وشغفي وحبي لهذا العمل جعلني اجتاز الدورة التدريبية خلال شهر واحد - ولله الحمد - فبعد الشهر الأول تم توظيفي بالمصنع، وبدأت العمل مع زملائي الذين وجدت منهم تعاونًا كبيرًا، وكان العمل جميلًا وممتعًا لأنه في أطهر وأفضل مكان وهذا يولد طاقة إيجابية، جعلتني أعمل طوال هذه المدة في المجمع، وأمثل المجمع في كثير من المعارض الداخلية والخارجية والتي منها دبي وطاجكستان وإندونيسيا. خياطة وتطريز وحول الشباب وتمكينهم من العمل داخل المجمع أوضح العويضي أن لديهم داخل المصنع عدد من الشباب يجيدون فن الخياطة والتطريز، ولديهم شغف كبير للعمل في هذا المكان، وآخرهم 25 شابًا تم قبولهم للعمل بالمجمع بعد أن تم تدريبهم مدة ستة أشهر في المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، وثلاثة أشهر بالمجمع، نعمل خلالها على تدريبهم في عملية تبديل الثوب ونجعلهم يرافقون أصحاب الخبرة لمساعدتهم ومعرفة آلية العمل، ذاكراً أنه شارك في تبديل ثوب الكعبة 25 عاماً، وأن عدد الأشخاص الذين يقومون بتبديل الثوب 116 شخصًا، 19 منهم فوق سطح الكعبة، والبقية موزعين حول الكعبة، لافتاً إلى أنه سهّل دخول كثير من الأصدقاء للعمل بالمصنع، وزوجتي وابني وبناتي زاروا المصنع وشاهدوني وأنا أعمل، ويحتفظون بجميع المواد الإعلامية المرئية والمطبوعة التي أظهر فيها وأنا داخل المصنع أو أوقات تبديل ثوب الكعبة المشرفة، كنت في مراحل شبابي أنهي لفظ الجلالة كاملًا خلال ست ساعات. العويضي يقوم أيضاً بالإشراف، ومتابعة زملائه، والمشاركة في تغيير ثوب الكعبة، مبيناً أن التبديل يحتاج إلى تركيز وجهد عالٍ لأنهم أصبحوا يحققون أرقامًا قياسية في وقت تبديل الثوب ويحاسبون على جودة العمل، وفي العام قبل الماضي 1439هـ تم تبديل الثوب في مدة زمنية تقارب الثلاث ساعات لإكمال استبدال الكسوة، في عملية شارك فيها 160 صانعاً وفنياً. تطور العمل وأكد غازي عمر باقليد: عملت في مجمع الكسوة منذ العام 1403هـ، بدأت حينها يدويًا بالورق والطباشير، كنا نطبع الورق ونحدد الحروف بالطباشير ثم نمشي على الرسم بالخيط ونعمل الحشو، فتطور العمل إلى أن أصبح آليًا، الماكينات ترسم الحروف والحشو ونحن نقوم بالتطريز، وفي السنوات الأخيرة شهد المجمع نقلات نوعية في الآليات والكوادر والتدريب والتطوير، فقديماً كنا نشعر بألم في الصدر والظهر والأذرع، أما الآن فالعكس بسبب تطور الآليات، وبسبب الخبرة العالية لدي أنتهي من حرف خلال اليوم. وعن عائلته قال: عائلتي تفتخر بعملي هذا، وأبنائي جميعهم يريدون أن يعملوا بنفس المهنة لما لها من فضل عظيم، وأبنائي الأربعة زاروا المجمع أكثر من مرة، وعديلي يعمل معي في المجمع وهو من الشباب الجدد، وأصبح من المميزين في عمله. وذكر صالح فريج الردادي -يعمل بالمجمع منذ 34 عاماً- أنه عمل في التطريز 33 عاماً، ومنذ عام تحول على ماكينة شلل القطن لتفريغها على المكر والشلل يستخدم لتقطين الحرف، فاليوم مع تطور الآليات داخل المجمع تحول عمل الشلل وتعبئة مكر الخياطة من العمل اليدوي إلى الآلي. وعن دور الشباب بالمجمع قال: الشباب الجديد طموح ومتحمس ويملك التعليم الكافي، فجميع من انضموا للمجمع متميزون ولديهم شغف للعمل. تدريب الكوادر ومع دعم فرص التوظيف لمواكبة احتياجات المصنع اقتضت الحاجة إنشاء قسم حديث يتولى مهمة تدريب الكوادر الفنية الملتحقة حديثاً بالعمل، حيث يقوم بهذه المهمة في التدريب والتأهيل مجموعة من الكوادر الفنية السعودية التي لها باع طويل وخبرة ومهارة في حياكة الكسوة وتطريزها، فيما يتولى كل مدرب إعطاء المتدرب دروساً يومية في مجال تخصصه في العمل سواء في التطريز أو التعامل مع الماكينات أو الصباغة أو المختبر، وتصل الدورة التدريبية إلى عام كامل أحياناً حسب نوعية التدريب والمهنة مع منح المتدرب الاحتكاك في ساعات العمل مع كوادر لها خدمة طويلة لكي تعطي جودة أكثر وتغذي مخرجاته التي تم التدريب عليها، علماً بأن عملية التدريب هذه ليس لها معاهد متوفرة تجيد مهارة التعامل مع حياكة وتطريز ثوب الكعبة وتدريبها، بيد أن الخبرة هي الأساس التي تضع المتدرب في طريق العمل للمستقبل، وهذا ما شعرت به إدارة المصنع من تخريج الدفعات السابقة التي وضعت لمسات لا تقل عن لمسات زملائهم القدماء. وحدة عناية ونظراً لما تتعرض له كسوة الكعبة المعظمة من احتكاك يومي وتعلق بها من قبل الزوار والحجاج والمعتمرين ولاسيما في أوقات الذروة، فقد لوحظ مؤخراً تأثر ثوب الكعبة وبدت عليه علامات التمزق، لهذا ارتأت الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي إنشاء وحدة عناية بداخل الحرم المكي الشريف تعمل على مدار اليوم، تتولى مهمة خياطة الثوب في موقعه على الكعبة عند ملاحظة ما يطرأ عليه من تمزق أو تأثر، فهذه الخطوة وفرت جهدًا كبيرًا من عملية التنقل، فيما حافظت على الاهتمام السريع بحلة الكعبة الجميلة، والحد من امتداد التأثر أو التمزق إلى مستوى أوسع ربما قد يفقد السيطرة عليه وبالتالي يصعب تجميعه أو إعادته إلى هيئته الأولى. كوادر مؤهلة تركيب الكسوة باتقان جهد كبير حماس في أداء العمل الاهتمام بأدق التفاصيل
مشاركة :