«لو بغيت أكنّ سدّي وأستكين ما استكان القلب، هيّض عَبْرِتِه» باح الشاعر الكبير محمد الرقراقي بهذا البيت الشعري اللافت، وهو ما زال صبيّاً في الرابعة عشرة من عمره، ما يؤكد على زخم المعجم الشعري لديه، والتماع موهبته المبكرة، وهي تنحت ضوءها برفق في أعماق هذا الصبيّ المتفتّح لتوه على فضاء القصيدة المحيطة به، والمتناهية إلى سمعه من قبل جدّه ووالده وأقاربه، فكان لزاماً عليه أن يخوض المغامرة الشعرية رغم وعورة المسلك وصعوبة الدرب، فيالها من مغامرة، وياله من امتحان، ذلك أن قصيدته الأولى رغم بهائها وقوّتها، جاءت لوصف حالة تراجيدية بامتياز، وانبثقت من معية الصدمة المعنوية في تمام اكتمالها وسطوتها. رأى الشاعر ناقته التي اسمها «القعوده»، وهي تئنّ وتتوجع قبل أن تفارق الحياة للأبد، مخلّفة هذا الجرح الدامي في ذاكرته الغضّة، وتاركة في نفسه أثراً دامغاً من الأسى والألم والارتطام العنيف بشظايا الفقدان. نظّم الرقراقي هذه القصيدة الجامحة بمبناها، والشجيّة بمحتواها، في أواسط الأربعينيات من القرن الماضي، ونعى كائناً عزيزاً على قلبه، ذلك أن النوق والمطايا قد استحوذت على مساحة دافئة من الصحبة الأثيرة، والصداقة النادرة لدى أهل الصحراء، وسطّرت تاريخاً عاطفياً ووجدانياً لا يمكن أن يختبره ويستأنس به سوى الضالعين في هذه التجربة الحياتية الاستثنائية. يقول الرقراقي في قصيدته هذه والفائضة بجماليات اللهجة البدوية، وبالمشاعر اللاهبة والصادقة حدّ التفاعلي الحسّي والمشهدي الجارف معها: (قامت «الفاطر» تزعزع بالحنين وزعزعت قلبي بصوتٍ جرّته تلتمح وتطالع الزول الجنين وتنتظر وسط «القراش» لزيلته وأَشْيِعّت صوتٍ يشوق الغافلين وكلّ معلول استاذت علّته قلت هوني يا «القعوده» لو حزين افختي عقلي فِزَعْ من مهجته واحرمتني من منام الهايعين لين نور الصّبح بانت نجمته لو بغيت أكنّ سدّي وأستكين ما استكان القلب هيّض عبرته يحرم إن جان الدجى لي لاج عين ولا لجى في عين جفني لذّته وكم غيري في الهوى من عصر حين يوم شدّاد المودّة لاعته) تميّز الرقراقي بالنباهة وسرعة البديهة والشوق للمعرفة، فغرف من بحر العلم ما كان متوفراً في تلك الظروف الصعبة، ودخل معترك الكتابة والأرقام والحساب، وأصبح من شعراء جيله القلائل القادرين على القراءة والكتابة، واستخلص من القرآن المعاني الجميلة والجليلة والوصايا النبيلة، ووظفها في شعره وحياته، فكان مثالاً وقدوة للأجيال الشعرية الجديدة، ورغم لجوئه لمفردات تنتمي لزمنها القديم، ولم يعد أغلبها متداولاً في الحياة اليومية الراهنة، فإن قصائده ما زالت تحتلّ مكانة عالية في سجلات الشعر النبطي بالإمارات، فهي ذات رونق خاص، وسمت شاخص، وحضور وارف، يلقي بظلاله وتشكيلاته وأصدائه وتأثيراته على كامل الخريطة الشعرية للميراث الأدبي في المكان. يقول الرقراقي في إحدى قصائده الغزلية العذبة: (يا كريم الوجه ما عاد لي غيرك ذرا افزع لمن ضايل الهمّ حلّت في انحره ما يبات الليل من وجعةٍ له يسهرا بالصواب راعي الطبّ عيّا يقدره في هوى من في ضميري صوابه ما برا وأشهد أن جرح المودة صحيح المنكره يا ثنيّ اللي بجرح المودة ما درا ما وزاه اللي وزاني ولا الحب إجبره) يتفنّن الشاعر هنا في استحضار الحالة الدرامية للحب، مستعيناً بقافية متحركة، قوامها حرف «الراء»، لينسج خيوطاً مرهفة من الوجد والرجاء، لتذكير المحبّ بحالته في مواجهة البعد وتبعاته النفسية والجسدية، جاذباً المتلقي لشعره نحو خصوصية يمكن تعميمها، ولكن تميّز الشاعر يكمن في قدرته على التعبير عن هذه الأحاسيس المتوارية لإظهارها والكشف عنها وتطريزها بالبوح الشفيف، والسبك المرهف، القادر على وصف التفاصيل الدقيقة لمعاناة المحبّ، حيث الهمّ يحتل مكمن الكلام، وهو «النحر» القابع بين الصدر واللسان، وحيث الوجع يديم السهر، والألم لا يفقه سرّه ومنبعه أفضل الأطباء والمعالجين، كما أن الطرف المقابل في ثنائية العشق هذه، يبقى في منطقته المحايدة، فلا هو قريب ليجسّ نبض هذا العذاب، ولا هو بعيد كي يستشعر المعاناة الجاثمة على جسد وروح المحبّ المبتلى بعزلته الموحشة، ووحدته الضارية. ويذكر الباحث الدكتور راشد المزروعي أن الرقراقي تأثر في صباه بمشاهد ربوع بادية: «ليوا» وكثبانها ورمالها الحمراء، وعاش فيها طفولته يتنقّل مع أهله بين البادية في موسم الشتاء، وبين محضر «حمرورة» في الصيف، وذلك لقضاء فترة المقيظ هناك بين أشجار النخيل والمياه العذبة في ذلك المحضر، وأنه عندما استقر في بيئته البدوية بعد حياة حافلة قضاها داخل الدولة وخارجها، ظلّ يقرض الشعر النبطي الجميل، ويتغنى بمنطقة «ليوا» وأراضيها، و«مدينة زايد» التي أصبحت المدينة الأولى في المنطقة الغربية، وهي مقرّ سكن شاعرنا الرقراقي حاليّاً. ويذكّر المزروعي حادثة قد تبدو غريبة بعض الشيء، وهي أن الرقراقي عندما بدأ في قرض الشعر، وهو في الثالثة عشرة من عمره نهره والده وهدّده بقطع لسانه، الأمر الذي يعيدنا للحادثة الشهيرة التي هدّد فيها الشاعر الكبير الماجدي بن ظاهر ابنته سلمى، وتوعّدها بقطع لسانها إذا استمرت في قول الشعر، ولكن على أية حال، فإن هذه المجابهة المبكرة والمخيفة لم تمنع الرقراقي ولا سلمى بنت ظاهر قبله، من التحدي والمكابدة والإصرار على حماية هذا الإبداع الذاتي وتطويره، وبالتالي ضمانة السطوع الشعري والمضيّ بالمغامرة الروحية والوجدانية إلى أقصاها. ويصف المزروعي شاعرنا الرقراقي بأنه «نابغة الظفرة»، ذلك أنه - كما يشير المزروعي - شاعر مخضرم من العيار الثقيل، صادق الإحساس، قويّ الكلمة، يعي ما يقول، ولا يسكت عن الحق في شعره، وهو وريث بيت شعر، استطاع أن يطوّع الكلمة ليصنع منها شعراً جميلاً فاق الكثير من الشعراء، بجانب أنه جارى الكثيرين من الشعراء أمثال خلف بن هذّال العتيبي من المملكة العربية السعودية، وكان ذلك - كما يذكر المزروعي - في أواخر الستينيات، عندما نزلت قصيدته التي غنّاها على أسطوانة بصوته في ذلك الزمان، ويقول فيها: «قمر عشر وأربع نور خدّك مثل نوره ذكرتك بعد ما شفت نوره وأنا ساري» فردّ عليه الرقراقي قائلاً: أنا هاض ما بي بادع القاف وسْطوره وأنا شاقني قوله على بدعه الجاري وإن بان سدّي عقب ما ريت منشوره عليك وأنا من علّتي يعلم الباري أنا بي سبب عذراً من البيض غندوره هنوفٍ خذت روحي وأنا منّها زاري رتوعٍ خجولٍ من هل القول مستوره نجيبةٍ عروضٍ ولا مشت بالتهذّاري».
مشاركة :