القاهرة - أقحمت الحكومة المصرية نفسها في مواجهة غير محسوبة مع أسر أكثر من 22 مليون طالب وطالبة يزاولون تعليمهم في مدارس حكومية، بعدما قررت الالتفاف على مجانية التعليم ورفعت المصروفات بنسبة وصلت 200 في المئة دفعة واحدة، وسط حالة قلق قد تتجاوز الغضب الذي تزامن مع تحريك أسعار السلع والخدمات مؤخرا. تشير المجانية في مصر إلى مرحلة سياسية سابقة عرف فيها نظام الحكم بتوجهاته الاشتراكية، ويعني الإلغاء أن البلاد قررت المضي قدما في الطريق الليبرالي إلى مدى واسع. ويعزز الاقتراب منها، وهي من المحرمات على مدار العقود الماضية، طبيعة التوجه السياسي في المنظومة الحاكمة، فحسم الكثير من الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية بهذه الطريقة يرخي بظلاله على مجالات أخرى. وربما تكون الاشتراكية تراجعت أو تلاشت في دول كثيرة من العالم، غير أنها لا تزال في دول العالم الثالث تحافظ على ميراثها السياسي، وظهور ارتدادات حاليا لا يؤكد تطبيق مبادئها، فهي تقتصر على بعض المظاهر الرامية لإحداث توازن مجتمعي. ولا يخفي طارق شوقي وزير التربية والتعليم، في كل مناسبة، تذمره من المجانية ويرى أنها وضعت في سياقات ماضوية لا تناسب الوضع الراهن، على مستوى أعداد الطلاب أو إمكانية الدولة. تكمن خطورة الموقف في مصر من أن قرار الحكومة سوف يتسبب في حرمان الكثير من أبناء الطبقة الهشة من التعليم، حيث تعول شريحة سكانية كبيرة على مجانية هذا القطاع، التي أقرها الدستور بوضوح، لتعليم أولادهم. ويتربع أولاد الأسر البسيطة والكادحة على قمة التفوق الدراسي. فكان بينهم ابن البواب والمزارع وبائعة الخضار، الذين التحقوا بكليات الصفوف الأولى، مثل الطب والصيدلة والاقتصاد. وتعتقد هذه الشريحة أن تحريك المصروفات بما يفوق إمكانياتهم، يعني أن الحكومة تضع أمامهم صعوبات بالغة في طريق استكمال تعليم أبنائهم. يتجنب المتذمرون من تقليص المجانية الاحتجاج علانية، ويحدوهم أمل بتراجع الحكومة خوفا من انفجار كبتهم، لأن الغلاء ليس مرتبطا بسلعة يمكن نسيان أمرها بمرور الوقت على وقع المشكلات الحياتية، بل يتعلق بمصير أسر اعتادت وضع تعليم أبنائها في صدارة أولوياتها. وضيقت تصورات الحكومة الخناق، ولم تترك للمؤيدين لها فرصة الدفاع عنها في هذه المسألة، ويكفي استطلاع رأي الناس في الشارع حول أدائها وشعبيتها لتصطدم بردود فعل وصلت لمستوى مزعج من التذمر. وعكس القرار الهوة بين الحكومة والشارع وارتفاعها إلى مستوى خطير، لأن الشعور السائد يبدو مقتصرا على وجود اتجاه من بعض دوائر صناعة القرار لإبعاد الطبقة المهمشة اجتماعيا، مقابل تصعيد الرأسماليين. وهذا خطأ غير مقصود، لكن يبدو أن هناك من يريد فسخ العلاقة بين النظام الحاكم والطبقات الفقيرة، والتي تعد الظهير الشعبي له، ما يفتح الطريق لتوترات مجتمعية. وسبق هذا القرار إصدار قرار لا يقل إثارة للجدل وهو هدم مئات الآلاف من المباني المقامة في مناطق زراعية ما لم يدفع أصحابها غرامات، وتواجه الحكومة اليوم حالة غضب متزايدة جراء هذا القرار الذي لم يراع، بحسب القاطنين، أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية الهشة. وأصبح التعليم في مصر للمقتدرين ماديا فقط، في ظل إهمال المدارس الحكومية والغلاء الكبير في مصروفاتها، مقابل التوسع في المدارس الاستثمارية. ولاحظ متابعون أن الكوادر الشبابية التي يتم تصعيدها في المشهد السياسي، بالترشح للبرلمان على قوائم الأحزاب أو من يتم اختيارهم ليكونوا نوابا للوزراء والمحافظين، معظمهم من خريجي المدارس والجامعات الخاصة. وتبرر الحكومة زيادة مصروفات التعليم المجاني، بأن يشارك الأهالي في تطوير المنظومة، وتحمل نسبة من المليارات التي تحتاجها الدولة لهذا الغرض، والحد من اللجوء إلى الاقتراض، لكنها لم تُدرك بعد المخاطر السياسية من وراء هذا القرار، حتى لو كان هدفه تجنب انهيار المؤسسات التعليمية الرسمية. ولم يتم الاقتراب من مجانية التعليم بتعديل المادة التاسعة من الدستور التي تُلزم الدولة بها، لكن رفع المصروفات بنسبة مبالغ فيها يعني أن المجانية بمفهومها القديم انتهت. يتذكر عماد سيد أحمد، وهو مهندس زراعي بمحافظة البحيرة شمال القاهرة، أنه كان يدفع لأولاده الثلاثة قرابة 200 جنيه (12.5 دولار)، حتى أصبح مطالبا بخمسة أضعاف هذا المبلغ، بخلاف تكلفة مجموعات التقوية. قال عماد لـ”العرب”، إن الحكومة لم تدرك بعد، أنها عندما ترفع أسعار المصروفات الدراسية لأرقام فلكية بالنسبة للبسطاء، تغامر بضرب استثمارهم الوحيد في الحياة. ويرى مراقبون، أن الخطورة تكمن في إخفاق الكثير من الأسر في الوفاء بالتزامات التعليم، ما يدفعها إلى فصل أولادها عن الدراسة، وفي ظل وجود أكثر من مليون و500 ألف طفل خارج المدارس لظروف اقتصادية، فإن نسبة الأمية سترتفع بالتأكيد. وأكد جمال زهران أستاذ العلوم السياسية بجامعة قناة السويس، أن الأزمة الحقيقية في تجاوز الحكومة للخطوط الحمراء التي حددها الناس ضمنيا في علاقاتهم بالسلطة، وهي أن يتم استهداف أولادهم بشكل مباشر. فالأسرة التي تعجز عن تعليم أبنائها سيكون من الصعب ترميم علاقتها بالمؤسسات الرسمية، مهما كانت قراراتها المستقبلية إيجابية، وتهدف إلى التكيف مع مقتضيات الحداثة. وتتعارض العصرنة التي تجاهد الحكومة لتكريسها مع زحف الكثير من الأسر الكادحة لتعليم أولادها في الأزهر هربا من التعليم العام الذي يفرض مصروفات باهظة على الأهالي، في حين ما زالت المؤسسة الدينية تقدم تعليما مجانيا يتناسب مع ظروف الفقراء. وقال مصدر حكومي لـ”العرب”، إن أعداد المنتقلين من التعليم العام إلى الأزهر تزايدت مؤخرا، في ظل الاستقلالية المالية للمؤسسة الدينية، ورفضها التعاطي مع قرارات الحكومة برفع منسوب المصروفات، والتمسك بمنظومة تعليمية قديمة، غير التي يتم تطبيقها في المدارس، ما يضع أعباء ثقيلة على تكريس مدنية الدولة. وأصر الأزهر على عدم تحريك المصروفات الدراسية بجميع معاهده أسوة بما فعلت الحكومة في المدارس العامة، حتى أصبح التعليم الديني البديل أمام أبناء الشريحة المهمشة، وهي معضلة أخرى تواجهها الحكومة التي تجاهد لتحجيم الهيمنة الدينية على المجتمع. ولذلك قد يصبح تعليم الأزهر الحاضنة لمن جارت عليهم قرارات الحكومة، ما يصعّب مهمتها في الضغط عليه لمجاراة مشروع الحداثة.
مشاركة :