نشر مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة الأميركية بيانا يوم الاثنين الماضي بشأن انتشار فيروس كورونا المستجد عبر الهواء (أي صار محمولا جوا) ثم عاد المركز وتراجع عن البيان نفسه بعد فترة وجيزة من الوقت. ومع أن نشر البيان ثم التراجع عنه قد لفت انتباه وسائل الإعلام وأثار اهتمام الكثيرين في الداخل والخارج، إلا أن خبراء الأمراض المعدية يقولون إنه من غير الواضح ما إذا كان البيان سوف يُحدث فارقا كبيرا إن لم يتراجع المركز عنه لاحقا. غير أن الاصطلاح الطبي في حد ذاته ربما يثير حالة من الارتباك لدى الجمهور بأكثر مما يثير من شكوك لدى الجهات الصحية المتخصصة.تتمثل المشكلة الأكثر خطورة في فقدان الرأي العام الأميركي ثقته بمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الأوقات الراهنة التي تشتد الحاجة إليها. وحتى وقت قريب، كانت تلك الوكالة مثالا ونموذجا يُحتذى لغيرها من الوكالات والمراكز الصحية في كافة أرجاء العالم، وكان محل احترام وتقدير الكثيرين في داخل البلاد وخارجها على اعتبارها من أبرز وأوثق مصادر المعلومات الطبية.يقول البروفسور إيرين بروماغ – وهو أستاذ علم الأحياء لدى جامعة ماساتشوستس، والخبير الذي يدلي بنصائحه فيما يتعلق بالحد من المخاطر المحتملة خلال الوباء الراهن: «إن مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في حاجة أكيدة إلى إعادة صياغة رسالتها المهنية نظرا للحالة المزرية التي ألمت بمصداقيتها في الآونة الأخيرة».انتقال العدوى الفيروسية عن طريق الهواء يحمل معاني مختلف بحسب المتلقي لتلك المعلومة. فإذا كان المتلقي للمعلومة من الجمهور العام من دون تفسير علمي واضح، فربما يشير الأمر على نحو خاطئ أن المحادثات العابرة مع الجيران في الشارع قد تنطوي على مخاطر بالغة الشدة، في حين أن الأمر ليس كذلك في حقيقته. وما يعرفه العلماء عن الانتقال الجوي للفيروسات أن الجزيئات المحمولة جوا والحاملة للفيروس منتشرة في الأجواء الخارجية التي تتسم بانخفاض مخاطر الإصابة المباشرة. ولقد أبلغني عدد من خبراء الأمراض المعدية بصفة شخصية أنهم يواصلون التعامل مع الأشخاص الآخرين في الهواء الطلق أو عندما تكون النوافذ مفتوحة من دون خشية الإصابة بالعدوى الفيروسية.غير أن الجزيئات الحاملة لفيروس كورونا المستجد تتصف بالتراكم في الأماكن المغلقة، مما يعني احتمال إصابة الأشخاص الموجودين في الأماكن سيئة التهوية بالعدوى الفيروسية حتى مع التزامهم بمعايير التباعد الاجتماعي المتعارف عليها. وهذا هو الجزء المهم للغاية من الرسالة: أن الناس قد يتعرضون للإصابة بالعدوى الفيروسية حال وجودهم في الأماكن المغلقة، أو المزدحمة، أو سيئة التهوية.ورغم ذلك، فإن اصطلاح «الفيروس المحمول جوا» من شأنه أن يبعث بمخاوف كبيرة لدى الجمهور العام تزيد من حالة الارتباك وعدم اليقين لديهم.تقول الدكتورة ميوغ سيفيك – وهي اختصاصية الأمراض المعدية لدى جامعة سان أندروز في المملكة المتحدة: «أعتقد أنه ينبغي علينا الابتعاد عن مخاطبة الجمهور العام بالاصطلاحات العلمية المعقدة وتبسيط الأمور إلى معانيها العملية نظرا لأنني أرى أن الالتباس ينشأ في المقام الأول من التخصصات العلمية المتنوعة ورؤاها المتباينة في تفسير اصطلاح (الهباء الجوي) وما ينبغي القيام به حياله».في أغلب الأحيان، يُستخدم اصطلاح (الهباء الجوي) بالتبادل مع اصطلاح (المحمول جوا)، رغم الاختلافات الواضحة فيما بينهما، وليست هناك أهمية تُذكر بالنسبة إلى مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها من حيث ذكر أي من الاصطلاحين في المجال العام.ومن زاوية الرعاية الصحية – كما تقول الدكتورة ميوغ سيفيك – فإن اصطلاح (المحمول جوا) يعني ضرورة تواجد المرضى داخل وحدات الضغط السلبية أو أن العاملين في مجال الرعاية الصحية في حاجة إلى ارتداء معدات الوقاية الكاملة بما في ذلك الكمامات الواقية من طراز (إن 95). وهذا هو الحال تماما بالنسبة إلى أمراض معدية من شاكلة الحصبة، أو السل، أو الجدري. ولقد اتخذت أغلب المستشفيات مثل هذه الاحتياطات الوقائية في وقت مبكر من بدء انتشار فيروس (سارس كوف 2). غير أن المستشفيات قد اكتشفت منذ ذلك الحين أن مجرد ارتداء الكمامات الجراحية العادية خارج وحدات العناية المركزة يساعد كثيرا على تفادي انتقال العدوى الفيروسية من المرضى إلى الآخرين.وتقول الدكتورة سيفيك إن أغلب حالات الإصابة بالعدوى الفيروسية في المستشفيات تنشأ عن الاتصال الوثيق مع المرضى، أو عن طريق الوجود في الغرفة نفسها مع أحد المرضى المصابين بالعدوى منذ فترة طويلة من الوقت. ويظهر ذلك جليا من خلال متابعة دراسات جهات الاتصال مع المرضى والمعنية بالتحقق من كيفية انتشار الفيروس في المجتمع الأوسع نطاقا. إذ تعتبر طول فترة التعرض للمصابين ذات أهمية كمثل مسافة القرب منهم سواء بسواء.ويساور الدكتورة سيفيك القلق من أن مفهوم اصطلاح الانتقال الجوي للفيروس قد اتخذ صبغة سياسية، تماما كما كان الحال بالنسبة إلى طريقة انتقال العدوى من دون أعراض واضحة، جنبا إلى جنب مع دور الأطفال والمدارس في ذلك.ومن بين الآثار الصحيحة لمفهوم الانتقال الجوي للفيروس أن العديد من الأشخاص الذين أصيبوا بالمرض لم يتصفوا بالإهمال أو التدني الأخلاقي، بل كل ما في الأمر أنهم تعرضوا رغما عنهم للإصابة في بيئات مغلقة أو سيئة التهوية، من شاكلة السجون، أو ملاجئ المشردين في الشوارع، أو المباني السكنية المزدحمة بالسكان، أو قاعات المؤتمرات، وخلافه. والبعض منهم تضطره ظروف العمل السيئة إلى التعرض للإصابة الفيروسية مثل منشآت تعبئة وتجهيز اللحوم على سبيل المثال.يقول البروفسور إيرين بروماغ إن من المعاني المجازية المفيدة في هذا السياق هو تشبيه فيروس كورونا المستجد بدخان السجائر: «إذا كان أحد الأشخاص معتاداً على التدخين في الأماكن المغلقة، فلن يمر وقت طويل حتى يبدأ جميع من في الداخل في استنشاق دخان سجائره. أما في الأماكن المفتوحة أو الهواء الطلق، فلن يتأذى من التدخين السلبي إلا أولئك القريبون للغاية من المدخن الأصلي».ويواصل البروفسور بروماغ قوله بأن تنقية الهواء من المتطلبات المهمة كذلك. ونظرا لأن كبائن الطائرات تتمتع بأفضل نظم التهوية من أغلب الأماكن المغلقة الأخرى، فإن مخاطر الإصابة بالعدوى الفيروسية أثناء استقلال الطائرات منخفضة بصورة مثيرة للدهشة. ولقد سُجل عدد قليل للغاية من الحالات الموثقة لانتقال العدوى الفيروسية على متن الطائرات، وكان أغلبها مسجل قبل فرض شركات الطيران لضرورة ارتداء الكمامات الواقية، وكانت ما تزال تسمح للمسافرين المصابين بالسعال بالوجود داخل الطائرة. غير أن عدد حالات انتقال العدوى المسجلة ضئيلة للغاية عند مقارنتها بإجمالي الركاب لدى شركات الطيران المختلفة.ويعلق البروفسور بروماغ على تراجع مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها بقوله إن الوكالة تراجعت عن فكرة أن الانتقال الجوي للفيروس هو السبيل الرئيسي لانتشار المرض بين الناس. وبرغم من وجود توافق على حدوث ذلك وعلى أهميته، إلا أن الأمر لم يُثبت من الناحية العلمية بأنه المسار الرئيسي لنقل الفيروس، أو ما إذا كان مسار الرذاذ الصغير المتناثر هو الأولى بالأهمية في نفس السياق، والذي ينقل الأشخاص من خلاله العدوى الفيروسية إلى الآخرين من مسافات قريبة للغاية.بيد أن الظهور بمظهر التناقض من الأمور السيئة، كما يقول البروفسور بروماغ: «لقد استغرق الأمر من العلماء وقتا طويلا حتى إدراك أن الانتقال الجوي هو جزء من دورة العدوى الفيروسية. ومن ثم فإن التراجع السريع عن ذلك وسحب البيان من وسائل الإعلام يثير قدرا من الشكوك بشأن ما ينبغي الوثوق فيه من بيانات مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها. هناك أمور لا يمكن السيطرة عليها عبر عملية نشر البيانات على المجال العام مما لا يبدو ملائما لوكالة جيدة التنظيم والسمعة مثلها».ويقول البروفسور بروماغ أخيراً: «تكمن المشكلة لدى مراكز السيطرة على الأمراض في الولايات المتحدة أن الأمر يتعلق بصورة الوكالة أمام الرأي العام بأكثر مما هو متعلق بالمجريات الداخلية في أروقة الوكالة». - بالاتفاق مع «بلومبرغ»
مشاركة :