لن تعرف من أين يأتيك الظمأ، ولا مايطفيء العطش، ولا تعرف من أين تسد الرمق، هكذا بتسلسل زمني مختصر للذاكرة على شاكلة العودة للوراء بلاي باك لا تجد ما يطمئن لا ماضيا ولا حاضرا ولا مستقبلا. تعبنا وضمرت عضلاتنا رغم أننا لا نستخدمها وأظن أن الدماغ انكمش في الجمجمة أيضا وتتعطل أعصاب فيه فيضمحل ويدخل في محاقه بلا عودة. لا تعرف من أين ياتيك الموت! كم مرة أوشكت على الموت وبقيت حيا رغما عنك، كدت تموت جوعا ولم تمت، كدت تموت حربا ولم تمت، قيل لك في المعركة أطلق الطلقة الأولى وبعدها يكون الأمر مريحا وكان مريحا وكأنك في حفل عرس ولم تمت. يوميا تتسلق الجبال والصخور وتسير بين أشجار البلوط والقيقب والكندول والخروب، لا تعبأ بالخنازير البرية والأفاعي السامة، وتصعد الجبال دون استراحة كما كنت في الصغر وتغرق في عرق ملابسك وتتأرجح على جذع زيتونة كما كنت تفعل وانت فتى كأنما تحاول ان تلغي عقودا من الزمن من عمرك وتعود صغيرا. تتعب كثيرا وأنت تقلد نفسك كما لو كنت صغيرا يركب المخاطر ويقفز عن السلاسل الحجرية على سفوح الجبال بعلو ثلاثة أمتار وأنت الآن تعتبر كهلا ومن هم في عمرك يسيرون على عكاز ولكنك تعاند الزمن وتمارس ألعاب الفتوة وقفزاتها في الخفاء الجبلي كأنما ترفض أن تهرم. وعندما يسألونك ما أنت فاعل في الجبال تقول كنت أعد شايا بأعشاب برية واستريح في ظل شجرة وأحيانا أنظف حول زيتونة وأزيل أشواكا برية تحيطها سرا لأن مسيرات طائرات الاحتلال تجوب الوادي بحجة حماية الطبيعة فإن قطعت شجرة بلوط داهمتك قوات الاحتلال في أرضك وإن شاهدوا لصوص الآثار ينبشون القبور والكهوف ولصوص الحطب الذين نحروا مئات الأشجار المعمرة من الزيتون فلا يمسهم الاحتلال، فالاحتلال يكره الزيتون ويكره الآثار فلا نصيب لهم فيها عبر التاريخ فكل الآثارعندنا تشير إلينا ولأجدادنا منذ ما قبل الإسلام ومنذ كنعان العربي الذي عمر هذه الأرض قبل التاريخ قادما من بحر ساحل عمان واليمن. غريب أمر الطبيعة عندنا يتم قضمها استيطانيا يوميا، وغابت الطيور عن أشجارنا وغابت الفؤوس عن استصلاح الأرض وجاء طير يسمى الغراب الهندي فأكل بيوض الطير وقضى عليها ويأكل ثمار العنب والتين أيضا. والطيور المغردة انقرضت كليا بفعل المبيدات الحشرية والطير الهندي، أما الخنازير البرية فأتت على السلاسل الحجرية وهدمتها وساهمت في جرف التربة وتعرية الطبيعة. هذا هو البلاء الأشد من كورونا وأخواته من الفيروسات الاحتلالية. قال باحث مثلي عن حقيقة الأرض إن لغة التخاطب مع الحيوانات الدارجة على ألسنة الفلاحين الفلسطينين حاليا هي نفسها التي استخدمها الكنعانيون مع دوابهم “هيش” بمعنى قف و”دي” بمعني إمش، و”اخصي” بمعنى انصرف و”تشؤ” بمعنى اشرب إلخ. نحن ملح الأرض ننطق بلسانها أما النفايات البشرية المهجنة فلا مكان لها تاريخيا هنا.
مشاركة :