مارلين سلوم 133 عاماً وما يزال المحقق البريطاني الأشهر عبر التاريخ «شرلوك هولمز» يجذب القرّاء والجمهور؛ بل يجذب المؤلفين لإضافة أحداث ابتكار مغامرات لهذه الشخصية البوليسية الخيالية. وطوال هذه السنين، حققت شخصية المحقق السري أرباحاً طائلة لصنّاعها، من مبتكرها الأصلي أرثر كونان دويل إلى شركات الإنتاج وصنّاع المسلسلات والأفلام التي تناولت قصصه. وها هي اليوم تظهر شخصية جديدة من عائلة هولمز، لتشكل إضافة سينمائية وفنية ناجحة؛ بل تعد متميزة جداً، وهي شقيقة شرلوك «إينولا هولمز»، المراهقة التي حمل الفيلم اسمها، وقد أطلقته «نتفليكس» الأسبوع الماضي؛ ليجد إقبالاً كبيراً؛ ويحقق نجاحاً مبهراً.أكثر ما يسحر القارئ والمشاهد في سلسلة قصص شرلوك هولمز، ليس الخيال والحس البوليسي؛ بل الذكاء في استخدام الرموز والشفرة والسعي في كل مرة خلف حل لغز جريمة ما، عبر إعمال العقل والتدقيق في أصغر التفاصيل وتوقع المفاجآت في أسلوب شرلوك ورؤيته للأمور من منظار مختلف. شقيقته المراهقة ابنة ال16 عاماً، تنافسه في هذا الحس والذكاء والقدرة على التحليل وتتبع الآثار بدقة وحل أصعب المسائل وأكثرها تعقيداً. الفيلم مأخوذ عن رواية كتبتها نانسي سبرينجر، وأعاد كتابتها سينمائياً جاك ثورن وأخرجها هاري برادبير. ثلاثي نجح في تقديم عمل يشد الجمهور منذ المشهد الأول ولا يفك أسره طوال الساعتين، ولا شك أن بطلته لها دور كبير أيضاً في هذا النجاح، وهي ميلي بوبي براون (نجمة فيلم «أشياء غريبة») البالغة في الواقع كما في الفيلم 16 عاماً.الممثلة الشابة هي المحور، تليق بالدور وقد أجادت أداء الشخصية بسلاسة وبراعة شديدة، لدرجة أنك لا تتخيل إينولا إلا بمواصفات ميلي براون. وإينولا هي البطلة الأولى والمحركة للأحداث، أما بالنسبة للنجوم المشاركين معها في الفيلم، مثل هنري كافيل (شرلوك)، سام كلافلين (الشقيق الأكبر مايكروفت) وهيلينا بوم كارتر (الوالدة أودوريا هولمز) وغيرهم، فليسوا سوى أدوات تكمل العمل، هي تلتقي بهم جميعاً وتتواصل مع كل منهم، فتشعر وكأنك أمام فراشة تتنقل من حقل إلى حقل. إيقاع الفيلم سريع، وميلي مثل إينولا رشيقة حيوية مرحة، تشع ذكاء ودهاء، جمالاً وبراءة.لافت أسلوب المخرج هاري برادبير في جعل البطلة هي الراوي للأحداث، يقدم بعض المشاهد من خلال صور فوتوغرافية جامدة، يضيف إليها شخصيات ويسقط أخرى بحركة كرتونية ظريفة. ولا يجعل من الراوي مجرد خلفية تسرد أحداثاً وتوضح مواقف؛ بل يوقف المشهد لتلتفت البطلة إلى المشاهدين حاكية ماذا يحدث أو تطرح عليهم خطتها وأفكارها، ثم يكمل المشهد.بداية الأحداث في عام 1884، تحكي إينولا عن ولادتها، ثم عن وفاة أبيها، ورحيل شقيقيها الكبير مايكروفت والثاني شرلوك عن القرية، وبقاء الصغيرة إينولا مع والدتها في المنزل الكبير. الأم غريبة الأطوار، لا تلحق ابنتها بإحدى المدارس الداخلية كما تفعل العائلات الأرستقراطية؛ حيث على الفتيات تعلم التطريز و«الإتيكيت» وآداب المائدة والتصرف في المجتمع وارتداء الأثواب الفضفاضة والقبعة والقفازات. لم تتعلم الصغيرة أياً من تلك الأشياء؛ بل علمتها أمها كيف تعمل عقلها في حل الألغاز وتركيب الكلمات وإعادة كتابتها بشكل معكوس، تماماً مثل اسم إينولا الذي هو انعكاس لكلمة «وحيدة» بالإنجليزية. وعلمتها أيضاً القتال والدفاع عن النفس والجوجيتسو وقراءة أهم الكتب والمجلدات.في عيد ميلاد إينولا ال16، تصحو الفتاة متحمسة، لتجد أن والدتها اختفت من المنزل من دون أن تترك أي رسالة، وكل ما تركته مجموعة أقلام وأوراق هدية لابنتها. تستدعي إينولا أخويها لمساعدتها في البحث عن أمهم. مايكروفت رجل أعمال عصبي يقرر إدخال شقيقته إلى المدرسة الداخلية؛ كي تصبح فتاة تليق بالمجتمع و«العريس»؛ إذ يجب أن تتزوج من أحد أبناء الطبقة الراقية، من وجهة نظره. على عكسه، يبدو شرلوك هادئاً بشوشاً قليل الكلام، يدقق في كل شيء، في محاولة فهم أسباب غياب والدته المفاجئ. دافع قوي وجود مايكروفت ضروري ليشكل دافعاً قوياً؛ كي تهرب إينولا من المنزل متنكرة بزي صبي، فهي ترفض الانصياع لأوامره باعتباره الوصي عليها، كما ترفض تغيير حياتها وسلوكاتها؛ كي تصبح على الشكل التقليدي «المفروض» على كل فتاة، وفي نفس الوقت تبدأ رحلة البحث عن أمها متبعة حدسها القوي وشدة فهمها لطبيعة والدتها وأسلوب تفكيرها. وفي القطار الذي يقلها إلى لندن، تصادف شاباً يغير خطتها وتضطر لمساعدته بسبب تعرضه لمحاولة قتل. إنه الماركيز توكسبوري (لويس بارتريدج).كاتب السيناريو جاك ثورن يجعل من القصة قضية نسوية بامتياز، فهو يظهر النظرة الضيقة التي كانت سائدة والتي حصرت دور الفتاة بالمظهر، وعليها أن تتجمل كي ترضي الأذواق وتجد عريساً مناسباً. ويقدم مايكروفت النموذج الصارخ لتلك العقلية، بينما والدته على عكسه تماماً، تبحث عن تحرير المرأة من تلك القيود التافهة، وتغيير المستقبل من أجل ابنتها وكل الفتيات ليس في بلدها فقط بل في العالم؛ لذا كانت تدعم حركة سرية تعمل على تقديم مشروع «قانون الإصلاح».تعودنا أن يكون شرلوك هولمز هو الأذكى بين كل الشخصيات التي تدور حوله في أفلامه أو مسلسلاته، لكن هذه المرة، تأتي إينولا الفتية لتبهر شرلوك نفسه وتفاجئه متقدمة عليه خطوة في كل مرحلة يمشيها بحثاً عن حل لغز اختفاء والدته، وسر الماركيز الشاب توكسبوري. تعمدت المؤلفة ومعها كاتب السيناريو جعل الفتاة تسرق الأضواء من «الأسطورة» شرلوك، لتولد بلا شك سلسلة جديدة من الأعمال نتوقع صدورها في السنوات المقبلة، تكون إينولا بطلتها، وهي قادرة على جذب الشباب والمراهقين، كذلك الكبار والأطفال، لأن العمل الحالي مبهج لكل أفراد الأسرة. المهم أن تكون الأعمال جيدة الصناعة، من حيث التأليف والكتابة والإخراج، كما الفيلم الحالي والذي أبهرنا من حيث التصوير والتمثيل و«الأكشن» والإيقاع والحركة والسيناريو، إلى جانب التمثيل طبعاً. والمهم أن تكون ميلي بوبي براون هي البطلة وتظهر كل طاقاتها وقدراتها، وهي بلا شك تملك الكثير. مواجهة الحياة هاري برادبير أمتعنا بأسلوبه غير النمطي في التصوير، خصوصاً استدارة إينولا للتحدث إلى الكاميرا (أي إلى الجمهور)، كما استمتعنا بمشاهدة النجمة هيليلنا بونهام كارتر بدور أم تجيد فعل كل شيء، وتربي ابنتها على تعلم مختلف المهارات لمواجهة الحياة بقوة، كما تعلمها أن تصنع مستقبلها بنفسها ولا تنتظر من يصنعه لها وبالنيابة عنها. إينولا، النسخة الأنثوية من «هولمز»، أكثر رشاقة وحيوية منه، لذا تكسب الرهان وتفتح أبواباً جديدة لصناعة أفلام بوليسية مشوقة بلا عنف ولا دماء، ممزوجة برومانسية ونفحة كوميدية ظريفة. marlynsalloum@gmail.com
مشاركة :