الصراع بين أمريكا والصين يرسم ملامح المستقبل

  • 10/1/2020
  • 01:00
  • 16
  • 0
  • 0
news-picture

سيحتفظ التاريخ باسم الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب باعتباره أول زعيم غربي منذ فترة السبعينيات يدخل في مواجهة مباشرة مع الصين. لم يسبق لأي رئيس أمريكي في الماضي أن أظهر مثل هذا الموقف ضد الصين، ما بعد فترة مؤسسها ماو تسي تونج. تغيرت الصين بدورها على مدى العقود والأعوام الماضية حتى باتت اليوم القوة الاقتصادية الثانية في العالم، وهي تنافس الولايات المتحدة الأمريكية على الريادة الاقتصادية العالمية. إلى أين ستصل هذه المعركة أو المنافسة؟ لا شك أن تفشي جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19) قد أفضت إلى تداعيات اقتصادية كبيرة أرخت بظلالها على مختلف دول العالم وانعكست على العلاقات السياسية الدولية، وهو ما يتجلى في تصاعد التوتر في العلاقات ما بين واشنطن وبكين. فقد راحت الولايات المتحدة الأمريكية تتهم الصين بالتسبب في انتشار الفيروس خارج حدودها، وهي تهمة تضاف إلى سلسة من الاتهامات الأخرى الماضية الحاضرة والتي تشمل «عدم احترام قواعد المنافسة» و«القرصنة الرقمية والصناعية والتكنولوجية» و«رفض تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل في الصفقات الاقتصادية» و«استخدام القوة في بحر الصين» – من دون أن ننسى تصاعد الخلافات حول جزيرة تايوان. لم يسبق أن وصل التوتر في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين إلى مثل هذا المدة على مدى أكثر من نصف قرن، وهي فترة ظلت خلالها واشنطن تتسيد العالم، وخاصة بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار عدوها الأول – الاتحاد السوفيتي.فما الذي تخبئه الأيام القادمة لمستقبل العلاقات ما بين القوتين الاقتصاديتين العظميين – الولايات المتحدة الأمريكية والصيني في عالم ما بعد كوفيد-19، والذي قد تتغير فيه الكثير من المعادلات. ظلت العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين محافظة على استقرارها على مدى الأعوام الماضية، حتى في فترة ما بعد الأحداث التي شهدتها ساحة تيانانمان في العاصمة الصينية بكين في سنة 1989. فقد ظل الساسة والمحللون والمستشارون العاملون في واشنطن في ظل الإدارات الأمريكية المتعاقبة على الحكم في البيت الأبيض والذين يصنعون السياسات والاستراتيجيات أعواما وعقودا قادمة يعتبرون أن تكثيف المبادلات التجارية سيحدث في نهاية المطاف تحولات اقتصادية ليبرالية في توجهات النظام الشيوعي الماوي الحاكم في بكين. وجدت هذه الأطروحات الاستراتيجية الأمريكية التأييد أيضا في أوساط صناع السياسات والاستراتيجيات في عديد الدول الغربية الأخرى الحليفة لواشنطن.كان الاعتقاد السائد في الولايات المتحدة الأمريكية أن الديمقراطية التي أرسى مبادئها توماس جيفرسون ستتسلل من بين ثنايا العلاقات الاقتصادية والمبادلات التجارية إلى آخر الأحزاب الشيوعية القوية في الصين –من خلال ظهور طبقة وسطى ميسورة وغفيرة العدد، تدفع نظام بكين إلى التطور والتغيير من الداخل. كان صناع السياسة في واشنطن يعتبرون أن هذه الاستراتيجية مربحة للطرفين – الصين نفسها والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. تنامت قوة الصين الاقتصادية على وجه الخصوص منذ تولي تشي جينبنج مقاليد الحكم، الذي بنى القوة الاقتصادية في بلاده من دون أي انفتاح ليبرالي، وهو ما بدد أوهام الغرب. فقد أصبحت الصين تتبوأ مكانتها كثاني أكبر اقتصادية في العالم بفضل إنجازاتها التاريخية الكبيرة والتي زادتها ثقة بنفسها. لا يزال الحزب الشيوعي الذي أسسه الزعيم ماوتسي تونغ له دور مركزي في الحياة السياسية والمجتمع والاقتصاد والدولة في الصين المعاصرة وهو الذي يتولى اليوم قيادة الاقتصاد الذي يحقق طفرات سريعة.الحزب الشيوعي هو الذي نصب تشي جينبنج رئيسا مدى الحياة للبلاد التي تحقق إنجازات اقتصادية كبيرة من دون أن تجنح لليبرالية الاقتصادية أو السياسية، على عكس ما كان يأمل الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. بل إن الصين قد حرصت، رغم إنجازاتها الاقتصادية العظيمة، وحافظت على تقاليد البلاد الضاربة في القدم كما أن سلطات بكين منغلقة على نفسها وتوصد الباب أما كل الانتقادات التي تأتي من الغرب، الذي يرفض الاعتراف بمكانة الصين المستحقة كقوة عظمى في العالم. لا تأبه الصين في الحقيقة بتحقيق الأرباح السريعة على رؤوس أموالها واستثماراتها. تؤمن سلطات بكين أيضا بتفوق «النموذج الصيني» الذي تتجلى  إنجازاته الاستثنائية التي حققتها حتى الآن. ولا تخفي الصين أهدافها المتمثلة خاصة في بناء القوة الصينية في بعض القطاعات التي تمثل مفاتيح المستقبل، وخاصة القطاعات التقنية المتقدمة التي سترسم ملامح الاقتصاد الصيني في المستقبل، على غرار ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية عقب نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945. تسعى الصين اليوم إلى استغلال ثقلها الاقتصادي من أجل تشكيل العالم حتى يكون أكثر انسجاما مع مصالحها الاقتصادية الحيوية. من بين الأولويات التي حددتها سلطات بكين الحفاظ على نمط الحكم؛ أي نظام الحزب الواحد والإشادة بمزاياه في خدمة الدولة والمجتمع منذ حقبة الحرب الباردة، في مقابل نمط الديمقراطية الليبرالية الغربية. هذا ما يفسر دبلوماسية «المحارب الذئب» التي وضع لبناتها الرئيس تشي جينبنج والتي تنتقص من الديمقراطية وتشيد بخصال ومزايا نظام الحكم الأوتوقراطي والشمولي. إن دبلوماسية «المحارب الذئب» تتجلى اليوم في هؤلاء المبعوثين الذين يتنقلون ما بين آسيا وإفريقيا، ومن لندن إلى برلين، وهم يقودون حملة دبلوماسية دفاعية كلما واجهت بلادهم اتهامات بعدم التحرك بالسرعة الكافية للحد من تفشي جائحة فيروس كورونا. ينتمي هؤلاء المبعوثون إلى جيل جديد من دبلوماسيي «المحارب الذئب»، نسبة إلى أبطال الأفلام الوطنية الضخمة التي يلعب فيها الكوماندو الصيني مفتولو العضلات دورا بارزا، فيقتلون خلاله أعداءهم الغربيين في إفريقيا وجنوب شرق آسيا بأيديهم العاريتين.إن الصراع الإيديولوجي ضد الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، إنما يكمل في نظر سلطات بكين المعركة من أجل الهيمنة والسيطرة الاقتصادية والتكنولوجية والبحرية والفضائية. هذا ما حدا بمساعدة وزير العدل الأمريكي جون سي ديميرز إلى القول: «إن الحرب المتعلقة بتطوير لقاح ضد فيروس كورونا «كوفيد-19» تمثل جبهة جديدة في الصراع». يجب القول بأن الأمريكيين والصينيين لا يتعاونون وإنما يتجسسون على بعضهم بعضا. كتبت صحيفة نيويورك تايمز تقول: «إن الدولة التي تكون سباقة إلى تطوير لقاح ضد فيروس كورونا هي التي ستصبح أكثر أهمية جيو- سياسية. كان الرئيس السابق باراك أوباما، سلف الرئيس الحالي دونالد ترامب، أول من أدرك أهمية مواجهة الصين وقد طلب المساندة من الحلفاء الأوروبيين والدول المطلة على المحيط الهادي من أجل احتواء الصين. أما الرئيس الحالي ترامب فقد فكك تلك الاستراتيجية ورفع شعار «أمريكا أولا» وهو يدير استراتيجية «الخبير المحاسب»، وهو لا يهتم إلا بالتوازن في الميزان التجاري، كما أنه يواجه الصين اليوم وحيدا مثلما وعد، واضعا نصب عينيه الفوز بعهدة رئاسية ثانية في البيت الأبيض، كما أنه دخل في حرب الضرائب ضد دول الاتحاد الأوروبي وهي الحرب نفسها التي يخوضها ضد الصين، رغم أن الأوروبيين يوجهون نفس الانتقادات الأمريكية إلى الصين. إلى أين سيصل الرئيس دونالد ترامب في «فصل» الاقتصاد الأمريكي عن الاقتصاد الصيني يا ترى؟ هل سيغلق أبواب وول ستريت في وجه الشركات الصينية؟ هل سيقيد أو يقطع العلاقات ما بين سيليكون فالي الأمريكي والشركات التقنية الصينية؟ هل سيعلق كل مظاهر التعاون العلمي بين البلدين؟ هل سيحد من الاستثمارات الصينية داخل الولايات المتحدة الأمريكية؟ عبّر مرشح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في شهر نوفمبر القادم عن دعمه لبعض هذه الإجراءات المتخذة ضد الصين. تجد أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم «الصين – الولايات المتحدة الأمريكية» نفسيهما تخوضان مواجهة ضارية سترسم الكثير من ملامح المستقبل. لقد علمنا التاريخ أن مثل هذه المواجهات الكبرى نادرا ما تؤدي إلى ما يحمد عقباه.لوموند

مشاركة :