قبلَ أكثر من مائةِ سنة كتبتْ صحيفةُ التايمز عدةَ مقالات وتحقيقات في معرض تغطيتها لوباء الإنفلونزا الإسبانية التي تفشت مع نهاية الحرب العالمية الأولى في سنة 1918 وأصابت ما يقل عن 500 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم. في تلك الفترة من تاريخ العالم في مطلع القرن العشرين سعت الحكومات والدول إلى التقليلِ من شأنِ ذلك الفيروس غير أن الأعداد الهائلة من المرضى قد أغرقت المستشفيات.لم تكن في تلك الفترة تتوافر الأدوية أو اللقاحات اللازمة لعلاج المصابين بالإنفلونزا الإسبانية، وخاصة الفئات الأكثر عرضةً للإصابة بالفيروس. فقد اكتشفت المضادات الحيوية التي نعرفها اليوم، مثل البنسلين في عام 1928. وقد أصبح الأطباء يستخدمونها بهدف التقليل من حدوث العدوى الثانوية، لكن في عام 1918. لم تكن هذه العلاجات واللقاحات التي تسهم في حماية الفئات الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس. أدى تفشي وباء الإنفلونزا الإسبانية إلى وفاة الآلاف من الناس. بل إن المصادر التاريخية تذكر أن عدوى ذلك الفيروس الضاري قد أصابت قرابة خمسمائة مليون هلك منهم 20%. في مقالها الصادر بتاريخ 25 مارس 2020 عبرت الصحيفة البريطانية العريقة عن فخرها بأنها كانت موجودة في تلك الفترة وأنها استطاعت أن تنقل صفحات معاناة البشرية وآلامها.فتشت الصحيفةُ المحافظة في أرشيفِها وراحت تبحث عن أوجه الشبه بين وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي ضرب العالم قبل أكثر من قرن من الزمن وجائحة فيروس كورونا الذي ظهر في مدينة ووهان الصينية منذ شهر نوفمبر 2019 وراح ينتشر في مختلف دول العالم، ما أودى حتى الآن بحياة عشرات الآلاف من الناس، عدا أعداد المصابين بالعدوى الذين يعدون بمئات الآلاف. تذكر الصحف أن الحكومات الأوروبية قد وقعت في نفس الخطأ الذي ارتكبته قبل أكثر من قرن، إذ إنها لم تحسن استباق خطر جائحة كورونا ولم تأخذ احتمال انتقال العدوى إلى بلدانها على محمل الجد وظنت أن هذا الفيروس الضاري سيظل حبيس الحدود الجغرافية الصينية. كانت الحرب العالمية الأولى –أو الحرب الكبرى– توشك أن تحط أوزارها بعد أن أزهقت أرواح الملايين من البشر وتسببت في دمار عارم وسببت للإنسانية آلامًا كبيرة. في تلك الفترة كانت أنظار واهتمامات الحكومات الأوروبية منصبة على الحرب وتداعياتها وكيفية إدارة فترة ما بعد الحرب الكبرى التي اكتوت بها القارةُ العجوز. تذكر صحيفة التايمز في مقالها الصادر مؤخرا أن وباء الإنفلونزا الإسبانية قد أصاب أحد مراسليها أثناء تغطيته للحرب الكبرى وذلك خلال الموجة الأولى من تفشي العدوى، مضيفة أن وباء الإنفلونزا الإسبانية كان على خطورته أقل ضراوة وفتكا من الإنفلونزا الروسية التي تفشت مع نهاية القرن التاسع عشر وبلغت ذروتها على وجه الخصوص ما بين سنتي 1889 و1890. كتب ذلك الصحفي مقالا تحدث فيه عن إصابته بوباء الإنفلونزا الإسبانية وكيف تعافى بعد ذلك بفضل الراحة التي لازمها والتي ظل خلالها يتناول أقراص الكينين التي تصنع بمواد مستخرجة من شجرة الكينين وهي تستخدم لمعالجة المرضى من الطفيليات والملاريا وغيرها من المشاكل الصحية الأخرى. صدر ذلك المقال بتاريخ 3 يونيو 1918 وقد ذكر فيه أن الحكومات الأوروبية لم تعر أي اهتمام في البداية لتفشي الوباء قبل أن تتدارك أمرها وتدرك مدى خطورته.ذكرت المصادر الفرنسية أن وباء الإنفلونزا الإسبانية قد أدوى بحياة ما لا يقل عن عشرين مليون شخص في دول عديدة في العالم، وخاصة منها البلدان الأوروبية، فيما أصيب مليارُ شخص بالعدوى. رغم مرور كل هذه العقود فإن وباء الإنفلونزا الإسبانية لا يزال حتى اليوم يمثل لغزا حقيقيا، إذا إنه لا يعرف سبب تفشيه وانحساره بعد ذلك بشكل سريع.الشي الوحيد المؤكد أن وباء الإنفلونزا الإسبانية من النوع التاجي كما الغالبية العظمى من ضحايا هذا الوباء كانوا من البالغين واليافعين الأصحاء بعكس ما يحصل عادة من أن يستهدف الوباء كبار السن والأطفال والأشخاص المرضى أو ضعيفي المناعة، على عكس جائحة كورونا التي تصيب خاصة كبار السن والمصابين بأمراض مزمنة. تذكر بعض المصادر أيضا وبعض المراجع أن الوباء كان سببًا في ترجيح كفة قوات الحلفاء وعاملا في نجاح حملاتهم في المناطق الوسطى وفوزهم في الحرب. ضرب وباء الإنفلونزا الإسبانية الأراضي الفرنسية على ثلاث موجات، كانت الأولى ما بين شهري أبريل وأغسطس 2018 ثم جاءت الموجة الثانية، الأشد فتكا، ما بين شهري سبتمبر ونوفمبر ثم الموجة الثالثة ما بين شهري فبراير ومارس 1919. أما في إسبانيا فقد كان وباء الإنفلونزا الإسبانية الأشد فتكا إذا إن العدوى أصابت 30% من العاصمة مدريد والمناطق الحيطة بها كما أنها شلت كل البلاد تقريبا فأصبحت المسارح ودور السينما خالية كما اقتصرت حركة الترامواي على بعض المناطق المحددة. تظهر الوثائق التاريخية أيضا أن ملك إسبانيا ألفونسو الثالث عشر كان من بين الأشخاص الذي أصابتهم عدوى وباء الإنفلونزا الإسبانية بعد أن حضر قداسًا أقيم في قصره بحضور عدد كبير من الناس، وبلغ عدد المصابين في العاصمة مدريد وحدها أكثر من 120 ألف شخص. في شهر يوليو 2018 ذهب بالاعتقاد في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية الأخرى أن الوباء يوشك على التلاشي لأن عدد الإصابات قد انخفض بشكل كبير، غير أن الوباء قد عاد بكل شراسة إذ إنه فتك بأعداد كبيرة من الناس الذين أصيبوا بمشاكل صحية خطيرة ومميتة إلى حد أن شخصا واحدا من بين كل ثمانية مصابين وجد نفسه في حالة صحية حرجة انتهت في أغلب الأحيان بوفاته. مع حلول شهر أغسطس 2018. أصبح الموت يتهدد شخصا من بين كل مريضين مصابين بالعدوى إضافة إلى أكثر من 4000 طفل في إحدى المدن الفرنسية. تتفق مختلف المصادر في القول بأن وباء الإنفلونزا الإسبانية قد تسبب في خسائر بشرية فادحة وهو ما جعل السلطات الصحية تتحدث عن الكارثة الطبية الأشد فتكا في تاريخ البشرية. ذات المصادر التاريخية والسجلات الرسمية تتفق في القول بأن وباء الإنفلونزا الإسبانية قد أودى بحياة ما بين 40 و50 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم، ومن بينهم 50000 حالة وفاة في كندا وحدها. بعد مرور أكثر من قرن من الزمن تظل الإنفلونزا الإسبانية التي تفشت سنة 1918 الوباء الأكثر خطورة وفتكا في التاريخ الحديث بما أفضت إليه من تداعيات اقتصادية واجتماعية، عميقة، على غرار الأوبئة التي حدثت في التاريخ القديم والتي أطاحت بإمبراطوريات وغيرت الكثير من مجريات التاريخ. بطبيعة الحال لم تكن العلوم الطبية متقدمة ولم تكن الأدوية واللقاحات والمستشفيات متوافرة في تلك الفترة. لم تكن هناك في تلك الفترة التاريخية ما بعد الحرب العالمية الأولي أي مضادات حيوية أو لقاحات مضادة للفيروسات تقوي مناعة الجسم وتزيد في قوته على مقاومة الأمراض والفيروسات فضلا عن قلة النظافة في المدن وهو ما تسبب في انتشار عدد من الأمراض التي فتكت بالسكان مثل مرض السل. في تلك الفترة كان أغلب الأطباء وطواقم التمريض مخصصة لمعالجة الجنود المصابين في الحرب العالمية الأولى، ما تسبب في إهمال السكان المدنيين. كورييه انترناشيونال
مشاركة :