استرجع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دور فرنسا القيادي حين قرر دعم المصالح اليونانية والقبرصية في البحر الأبيض المتوسط، فعبّر ماكرون عن منطق تفكيره خلال خطابه في 29 أغسطس الماضي، فتكلم عن منطقة تحاصرها الصراعات وذكر الاشتباكات الحاصلة من سورية إلى ليبيا، والخلافات القائمة على مصادر الطاقة، وعملية السلام اللامتناهية، وتجارب الدول الفاشلة مثل لبنان، والضغوط الديمغرافية الهائلة. أكثر ما يقلقه هو تفاقم الوضع الراهن بسبب التطورات المستجدة، منها الانسحاب الأميركي واللامبالاة الأوروبية عموماً، لكن عادت قوتان بارزتان إلى الساحة أيضاً: إنهما روسيا وتركيا اللتان تحملان تاريخاً حافلاً، فيرى ماكرون في تركيا قوة رجعية خطيرة تتمسك بنظرة "خيالية" عن تاريخها الماضي. عمد ماكرون أيضاً إلى تكثيف الضغوط خلال قمة كورسيكا لدول المتوسط السبع في الأسبوع الماضي عبر تشجيع الأوروبيين على الوقوف بكل قوة في وجه أنقرة. كانت تركيا قد نشرت أسطولاً من السفن الحربية إلى جانب السفن البحثية للمسح الزلزالي في خضم بحثها عن الموارد الهيدروكربونية وسعيها لفرض نفوذها في شرق البحر الأبيض المتوسط، ووصلت السفن التركية إلى المناطق الاقتصادية الخالصة في اليونان وقبرص معاً واخترقت بذلك سيادة البلدين. أوضح الأتراك من جهتهم استعدادهم لاستعمال القوة عند الحاجة أثناء تنفيذ هذه المهام. استاء الفرنسيون أيضاً من تدخّل تركيا في ليبيا واعتبروا تحركها محاولة من أردوغان لتوسيع نفوذه في منطقة محورية في أسفل أوروبا، وفي الشهر الماضي، شاركت السفن الفرنسية والتركية في مناوشات محتدمة قبالة الساحل الليبي، وعقدت تركيا أيضاً اتفاقاً خاصاً بها في المنطقة الاقتصادية الخالصة مع الحكومة الليبية لتقسيم منطقة البحر المتوسط إلى قسمَين، وهي تهدف بذلك على الأرجح إلى منع قبرص ومصر وإسرائيل من تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر خط أنابيب. قد يعطي تدخّل ماكرون القوي الأثر المنشود، فهو يضغط على الأوروبيين لاتخاذ موقف حاسم لأن دور الوساطة الألماني لم يُعْطِ ثماره، ووجّه أردوغان من جهته رسائل إلى العالم الخارجي وخفف حدّة لهجته في الفترة الأخيرة، وأعلن استعداده للتفاوض مع جميع الأطراف باستثناء قبرص لأن تركيا لا تعترف بها، والأهم من ذلك هو أنه سحب السفينة الاستكشافية "أوروتش ريس" من بحر إيجه وأعادها إلى الميناء. أصبح هذا القرار التركي بتحفيف التوتر القائم قبيل قمة الاتحاد الأوروبي المرتقبة ضرورياً بعدما خفّضت وكالة "موديز" تصنيف الدين التركي بدرجة غير مسبوقة، فبرّرت "موديز" قرارها بضعف أداء الحكومة في توجيه الاقتصاد فضلاً عن تصاعد التوتر في مناطق مثل شرق البحر الأبيض المتوسط نتيجة مواقف السياسة الخارجية التركية. لكن لا يزال خطاب أردوغان حاقداً على الساحة المحلية، فهو يهدد الفرنسيين وجميع الأطراف المعنية الأخرى ويستغل الأزمة في شرق المتوسط لتأجيج المشاعر القومية، ووسط سلسلة متلاحقة من الانتكاسات المحلية، يواجه أردوغان مهمة لا يُحسد عليها تقضي بتحديد أفضل طريقة للتراجع عن التصعيد الأخير. ربما لم تتضح بعد نتائج مقاربة ماكرون لملء الفراغ القيادي، لكن يبدو أن الأتراك تراجعوا خطوة إلى الوراء في الوقت الراهن، ففي 1996، حين أوشكت اليونان وتركيا على خوض الحرب بسبب صخرتَين بسيطتَين في بحر إيجه، تدخلت واشنطن لنزع فتيل الأزمة. * «هنري ج. باركي»
مشاركة :