شكّلت التجربة الشعرية لجيل السبعينات في مصر ثورة استطاعت أن تفرض نفسها بقوة، من خلال تمرّدها على الأنماط السائدة. وتُعد تجربة الشاعر المصري محمد آدم واحدة من أهم التجارب في هذا الجيل حيث تمكن من أن ينتج قصائد تحتفي بالجسدانية كرؤية لتشكيل الوجود والعالم. “العرب” كان لها هذا الحوار مع محمد آدم حول تجربته والمتغيرات الشعرية الراهنة. تُشكِّل الأسئلة الفلسفية عمودًا فقريًا في قصائد محمد آدم، فثمة أسئلة مُلحة دومًا تطل برأسها من قصائده، حيث يقول “أنا لا أزعم أن ثمة كتابة على الإطلاق دون رؤية فلسفية، فالفلسفة الحامل الرئيس لرؤية الإنسان في الكون، عن ماذا نكتب، ولماذا نكتب، وكيف نكتب، ولأي شيء نكتب؟ يجب أن يكون هناك دافع ما وسؤال مُمض ومُؤرق تحاول الكتابة الإجابة عنه ومن خلاله”. يكشف آدم، لـ“العرب”، أنه في بداية مشواره الشعري اتجه نحو دراسة الفلسفة، ودرس الفلسفة الغربية والمشرقية، وتوقف كثيرا أمام ابن عربي الذي قال عنه “عندما نقرأه نكتشف أننا نسير في وحدة واحدة لا مكان للقهر أو الحيف، لقد حاولت قراءته عشر سنوات كاملة، لأنه كنز صعب ومستغلق إلا على من يكابده ويعاني معه، ويحاول أن يفك طلاسمه، فقد جمع بين ثقافات متعددة في مفهومه للإنسان ومفهومه لله”. رحلتي مع الفلسفة يقول محمد آدم “من هنا بدأت رحلتي مع الفلسفة، وبنيت عليها مشروعي الشعري كاملا، وأؤكد أنه يختلف كليا وجذريا عن المشاريع الشعرية العربية، بدءًا من بدر شاكر السياب ثم صلاح عبدالصبور، وحتى هذه اللحظة”. ويتابع “أردت أن أشق طريقا مغايرا لنفسي، كانت ركيزته الأولى الرؤية الفلسفية، لكن حينما تطغى الفلسفة على الشعر يفقد قيمته، ويتحول إلى فلسفة محضة لا علاقة لها به على الإطلاق، فالشعر عصير الفلسفة، وسؤاله لماذا تكتب وما الذي يشغلك وكيف تنظر إلى العالم، ويعيد صياغته من خلال رؤية فلسفية جمالية”. ويوضح آدم، لـ”العرب”، أن ثمة سؤالا أرّقه طويلًا وهو: كيف كان يُكتب الشعر في مصر قبل أن يأتي العرب الرُحل، وعرب الجاهلية إليها؟ الأمر الذي جعله يفتش طويلاً في الشعر ما قبل العربي، فقد كان موقنًا بأنه من المستحيل أن يكون ما كان يكتب هو الشعر الجاهلي فقط، ومن منظور فلسفي أيضًا بدأ يُفتّش في الشعر المصري القديم، والبابلي، والكنعاني، وفي تراثات هذه المنطقة. كل ذلك جعل روحه تلتحم التحاما كاملا وتتشرب الشعر ما قبل الإسلامي، لأنه معنى أن تكون مصريا، أن لك خصائصك ورؤيتك وبنيتك الدينية والجمالية المستمدّة من الإيمان بوحدة الإنسان ووحدة الإله، كل هذه المعطيات أعادت تشكيل رؤية محمد آدم في الكتابة الشعرية. ويرى آدم أن جيله في السبعينات من القرن الماضي أحدث انقلابا جذريا في الشعرية العربية، وسيقال يوما ما “النص ما قبل سبعيني وما بعد سبعيني”. وثمة انشقاقات واختلافات لا بد أن تحدث، فكل فرد له طريقته الخاصة، وكل محاولة تحمل في بنيتها الداخلية جذورا انقلابية على النص الشعري، الذي ظل قابعا تحت سيطرة النص القادم من القصيدة العربية. تعرض آدم لتجربة مصادرة أعماله في مصر، بدءًا من ديوانه الأول “متاهة جسد”، ثم أعمال أخرى مثل “نشيد آدم”، وجاءت قصيدته “نشيد آدم” حوارية بين الإنسان والله عن كل عبث يحدث في الوجود من قتل وشر، وكان السؤال: ألم يكن من الممكن يا إلهي من حل آخر لهذا العالم يشعر فيه الإنسان بالأمان؟ لماذا هذه اللعبة التي يُدمَر فيها الإنسان باسم الدين؟ و”نشيد آدم” نص فلسفي وإنساني بامتياز، يُعيد صياغة الوجود من خلال نشيد آدم الذي يقف في لحظة ذهول بعد خلق العالم. الطريق إلى التمرد رغم قسوة تجربة المصادرة لأولى أعماله وأخرى تلتها، لم يُثن ذلك محمد آدم عن طريقه الذي اختاره منذ البداية، حيث يقول “صرت أكثر تمردًا لأنني قلت لنفسي إذا صنعت من نفسك رقيبًا فكف عن الكتابة، كتابتي هي رقيبي، كيف أتواطأ ضد نفسي؟ الكاتب حر له أن يكتب ما يشاء، وما يريد حسب تصوره، فلا يحق لأحد أن يكون بديلًا عن الله ليحاكم البشر”. ويشير إلى أن هذا اليقين جعله يوغل في المزيد من التمرد، وبعدها كتب متاهة إبراهيم وسرديتان، ولم يهتم بالتصفيق أو حركة النقد، وكان لديه يقين أنه عندما يكتب بحرية سيصل إلى العالم بنفس الحرية، لأن هناك من سينتبه في يوم من الأيام “إن كنت تستحق”. يقول “كيف يمكن أن أدلس على نفسي؟ الكاتب الذي يفعل ذلك لن يقدم شيئا للكتابة، فالحرية تبدأ من الذات الفردية أولا، والشعر يصنع مقدسه من داخله”. ومحمد آدم صاحب تجربة شعرية ثرية تجاوزت أربعة عقود، وديوانه الأول الذي تمت مصادرته كان محاولة لإعادة بناء البنية الشعرية الطاغية، وإشارة بازغة لإعادة اكتشاف العالم من خلال الجسد الذي يُشكّل اللبنة الأساسية للعالم ككل. وهناك اختلافات في كتابته الأخيرة عن البدايات، فمع نضج الإنسان واستمراريته في الكتابة والامتلاء بالتجارب لم يعد يكثف على رؤية الجسدانية، وبدأ ينفتح على الكون كله، وفي تجربته خروج من الواحد إلى المتعدد. كان آخر أعمال آدم ديوان “درب البرابرة” الذي صدر عام 2014، وهو الآن عاكف على كتابة ديوان جديد بدأه منذ ثلاث سنوات وعنوانه “شمس سوداء”. ويقول عنه “هو مرثية للعالم بعد وفاة زوجتي التي بفقدانها شعرت بلاجدوى الحياة وأن الوجود كله يغرق في العبث”. قصيدة النثر يؤمن آدم بقصيدة النثر إلى حد أنه يعتبرها اللبنة الأولى التي أدت لقيام ثورة 25 يناير 2011 في مصر، ويوضح فكرته قائلًا “قصيدة النثر تحمل فكرة التمرد والاختلاف والخروج على النمط وعلى أي طغيان، وأن نخرج على قطيع الأغنام كي نكون أحرارًا، والحرية تعني أن على كل شاعر عظيم أن ينتج إنتاجه الخاص دون الاتكاء على نصوص أخرى، وأكتب نصًا لا يستطيع أي شاعر تقليده، هذه هو الشعر الحقيقي”. في تصوره فإن قصيدة النثر هي إعادة تفكيك البنية القطعانية للقصيدة، وبدأ هذه الكتابة في السبعينات وعندما أراد نشر ديوانه الأول “متاهة الجسد”، باع كل ما يملك كي ينشرها، ولم يكن أحد يريد أن ينشر هذا النص، فهو كتابة مغايرة عن كل ما كتب أدونيس ومحمود درويش وصلاح عبدالصبور، وغيرهم. مع الأهمية التي يرجعها محمد آدم لقصيدة النثر ودورها في الثورة على الأنماط التقليدية في كتابة الشعر، ثمة مشاكل لا تزال تلاحقها، من أهمها ما أنتجته من كتابات لا ترقى لمستوى الشعر، وهي غارقة في الانشغالات اليومية وليس لها سؤالها الخاص أو فكرتها الشعرية المميزة. جيل السبعينات أحدث انقلابا في الشعرية العربية، وسيقال يوما ما النص ما قبل سبعيني وما بعد سبعيني ويلفت آدم إلى أن وجود نصوص رديئة تخرج من رحم قصيدة النثر شيء طبيعي، يقول “حتى على مستوى النص الصحراوي هناك قلة من العباقرة الذين كتبوا نصوصا تظل باقية، لكن هناك الآلاف من القصائد كتبت لتمثل هؤلاء وعلى نمط هؤلاء، لكنهم ذهبوا إلى مزبلة التاريخ، أي أن الثقافة لا تحتفظ إلا بالمغاير الذي يضيف، ويعيد تشكيل الثقافة الإنسانية كلها، ويعد النمطي والمتشابه والمتشاكل والنص الواحد الذي يكتبه الجميع كتابة زائلة”. ويستطرد آدم، قائلا “ليس كل من يكتبون الشعر شعراء، بعضهم تقليديون بامتياز، ويتم تقليد قصيدة النثر، إلى أن يأتي شخص آخر يضيف مهمة مثل إليوت (توماس ستيرنز إليوت) الذي هو إحدى اللبنات الكبرى في الشعرية العالمية، وسيظل علامة وحجر زاوية في هذه الشعرية، ويبقى كفافيس قامة في الشعرية اليونانية، وكل هؤلاء لا يقلدون ولا يمكن تقليدهم، وقد يأتي الآلاف من المقلدين لكن حتما إلى زوال”.
مشاركة :