تعرية للفكر العنصري و رصد للمصائر الدامية

  • 10/5/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

” شحّاذو المعجزات” لقسطنطين جيورجيو.. هدى الهرمي ما فتيء الأدب يعرض في سجّلاته أعمالا روائية تكشف عن بؤر الظلام و الهمّ الانساني خلال الأزمنة الغابرة، كعناصر مهيمنة و راسخة في التاريخ البشري. و الملاحظ ان الفكر العنصري ظلّ معربدا في ايقاع متوازي مع الاستبداد و التعنّت الايديولوجي الى حدّ الساعة، مشكلاّ مجريات الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة، اثر اندلاع  الاحتجاجات المناهضة للعنصرية و الاضطهاد الذي يتعرّض له السود خصوصا بعد مقتل الأمريكي ذو الاصول الافريقية جورج فلويد على يد الشرطة و تفاقم الأزمة مع تزايد المسيرات المناوئة للعنصرية في انحاء اوروبا.  و بدا واضحا من خلال رواية “شحاذو المعجزات” للكاتب الروماني قسطنطين جيورجيو التي نشرت سنة 1957، و الصادرة عن دار ميسكيلياني سنة 2017، ترجمة وحيدة بن حمادو ، حجم المضامين الانسانية المناهضة للعنصرية، كتعزيز لهذه التوليفة الدرامية في فضح عالم عدواني متغطرس، و التذكير بالصراعات الايديولوجية القائمة بين المجموعات البشرية. فكيف للمعجزات أن تُصنع و تتبرّم من التعويذات و أناشيد الاسلاف المضطهدين، لينحاز الفرد المسلوبة كرامته و المنبوذ في المجتمع، الى مخططّات أجنبيّة آثمة تسوّلا للحريّة و العدالة. تداعيات الرواية و احداثها لقد قدم ماكس أومبيلينت الرجل الاسود الأمريكي الى افريقيا  و جلب معه آلات تسجيل و كاميرات لتصوير الحيوانات البريّة، رفقة الرجل الابيض الروسي ستانيسلاس كريتزا. لكنه رحل الى منطقة متوحشة ليتجه نحو اقليم اكلي لحوم البشر. لكن غاية ماكس و ذهابه تحديدا الى قرية ايسيوبوليا هي قتل المبشرين الانجيليين البيض او ( كتبة الانجيل) الأربعة وفق خطة مُحكمة و تنفيذا لمهمّة استراتيجية روسية تقتضي ضرب القوى الاستعمارية الأوربية. لقد تمت مطاردة أسلافه في افريقيا و بيعوا الى تجّار الرقيق كي يقتادوهم الى أمريكا، لكنه يجهل اصوله و بلده، و كل ما يعرفه هو انه سليل عائلة أومبيلينت الثريّة التي تملك مؤسسة ضخمة لإدارة شؤون الجنائز منذ اربعة أجيال. ان ماكس اومبيلينت مليونيرا لكنه سيتحول الى قاتل لمهمّة من أجل تحرير العرق الأسود المضطهد. لقد ظهرت في حياته بلانش كنور الفتاة الأمريكية الشقراء، ليفتن بها بعد ان أوقعته في غرامها رغم كل الفوارق العرقية و الدينية و انتمائها الى عائلة شرطيين ابا عن جدّ. “ان بلانش كنور هي الشرطة، و ماكس أومبيلينت هو المقبرة بما انه سليل حفّاري قبور. فالشرطة تمثل نهاية الحرية و المقبرة هي نهاية الحياة. اما والدة ماكس ” الأم افريكا” كما ينادونها، وحدها يساورها الخوف من لون بشرة بلانش البيضاء، انها تعرف تماما من خلال سجلاّت دار الجنائز عدد السود الذي يقضون جرّاء معاشرتهم لنساء بيض” رغم ذلك وافقت على زواج ماكس من بلانش مثلما وافق الشرطي الاب. و اثناء التحضير للزواج يتم اختطاف المليونير الأسود من طرف الإخوة كنور، و يُلقى به وسط الطريق و هو عاري تماما و مخصيّ…لكنه لم يفارق الحياة. لقد تعرّض الى العنف و التشويه بشكل بغيض، و كان ضحيّة مؤامرة رخيصة من طرف عائلة كنور لسلبه كل ما يملك ثم قتله. لكن عند اللجوء الى القضاء يتم غلق التحقيق بعدم سماع الدعوى جرّاء تواطؤ الشّهود البيض ضدّه و غياب الأدلّة، فيغرق سكان المدينة من السود في حزن و قهر. و حين اُهدرت الحقيقة و انتصر الباطل، اخترقهم صوت موسكو مدافعا عن السود و معترفا بحقوقهم في العدل و الاحترام. لقد كانت معجزة يؤجّجها الهوس بالعدالة و المساواة …فهل تنتهي مأساة ماكس و يتغير التاريخ بتحوّل السود الى شحاذين معجزات من اجل المساواة و الحريّة ؟ بعد ان قضى المبشرون البيض طبقا للمخطط تشرع قوات الشرطة الاستعمارية شنّ عمليات قمعية في تروبيك ضدّ آكلي لحوم البشر لمعاقبة القتلة السود و قد اثارت الصحف و محطات الراديو و التلفاز ضجّة في كامل العواصم. لكن ستانيسلاس كريتزا، الروسي الجنسية، هو من اذاع خبر المجزرة الرباعية و هو قاتل المبشرين، و لم يكن آكلوا لحوم البشر سوى قتلة مأجورين و ماكس أومبيلينت المحرّض على  الاغتيال بعد ان وعدهم بتحويلهم الى بيض كمكافأة على قتل المبشّرين. و كأي كارثة لها انعكاسات سياسية، نجحت موسكو في توريط أوروبا بامتياز. مع ذلك سيتحمل السّود المسؤولية عن كل مكونات المأساة اعتمادا على وحشيتهم كقبيلة، و عبيدا متمردين خارجين عن القانون و تتم مطاردتهم و قتلهم من طرف الجيش مثلما خطط الروس لذلك. و هكذا لم يعد باستطاعتهم تسوُّل الاستقلال و الحرية. و يتمّ رسميا تأكيد اغتيال الانجيليّين ماتي و لوقا و مارك و بيانكا. و كان لهذا البيان اثره البالغ على اوروبا العاطفية و المستعدة للدفاع عن المسيحية. لكنها ضمنت ايضا حقول الكاكاو لشعوبها لسنوات اخرى بفضل صنيع السود و فعلهم الوحشيّ. لقد عاش ماكس اومبيليت الترّقب المرير للعودة الى أمريكا بعد معاناته الجسدية و تأنيب الضمير خصوصا حين اتهم زينو الفلاشي، سائقه المطيع، بتورّطه في موت المبشرين لينتهي الامر بتسليم نفسه حتى يكتمل العقاب و بذلك ينتهي العمل المتقن للبيض و يختم اعترافه بقوله : ” انا أسود و الامر يختلف بالنسبة للسود، لقد نلنا العقاب منذ قرون، دون ان نرتكب جرما. و أنا لست استثناء”. توظيف السخرية كجزء فني في السرد لقد حرص قسطنطين على ترصيع عمله السردي بسخرية  لاذعة و هو يتوغل في الكشف عن المعاناة البشرية، كما هو الحال في عمله الأشهر ” الساعة الخامسة و العشرون”، لكن اللافت ايضا طفو الكثير من التفاصيل  بدءا بالتركيبة النفسية و انصهارها في الصورة الذهنية اضافة الى لغة الجسد التي تشكلت عبر الدراما و تلك المفارقات المضحكة و المبكية في الوقت ذاته. فيقول الراوي في هذا المشهد : _” ان عبدا دون أسنان لا يقدر على الأكل”، قال  آكا. “و اذا لم يأكل، فانه سيفقد قوّته، و لن يصلح لأيّ شيء. نحن نقتلع أسنان كلّ مراهقينا الذكور في قبيلتنا، و لذلك ينجون من العبوديّة “. تأثّر الرجل الأسود بهذا القول، و قال في نفسه:” أصبح أسلافي عبيدا في أمريكا، فقط لانهم غفلوا عن اقتلاع أسنانهم”. لقد استطاعت الرواية الاشارة الى الحقائق و الظواهر الملغمّة بالنزعة الاستعمارية و المؤدية الى الاستنكار و مرارة السخرية الى نهايتها، مع جرد للتمييز العنصري، و ما يتخلّله من تنافر مع متطلبات العقل و شعارات التنوير، من خلال المزعم الديني و رسائل المبشرّين  و ما تبعها سريعا من مطامع و طرائق ملتوية، بل سيطرة و اضطهاد نابع من التمييز العرقي و الايديولوجي، ليغدو الفرد اعزلا الا من تاريخه و حكايات شعبه بعد ان سلبت منه الحرية و الحياة.

مشاركة :