مارلين سلوم كلما تقدم العمر ببعض الممثلين الذين عاشوا مجد الشهرة، وألق النجاح، وحصدوا الكثير من الجوائز، ومن حب الملايين حول العالم، كلما ازدادوا بريقاً، وأحببنا حضورهم على الشاشة، إذا أجادوا اختيار أعمالهم. روبرت دي نيرو من هؤلاء الذين لا تغيب عنهم شمس الشهرة، ولا هم يتراجعون عن اختيار ما يليق بعمرهم، ويليق بخبرتهم، ومسيرتهم. وكلمة «يليق» لا تعني أبداً أن يحصر النجم خياراته في قائمة أعمال تراجيدية، أو تاريخية، أو سياسية، فهذا الفنان يتجه كثيراً إلى الأفلام العائلية الاجتماعية الكوميدية، ويجيد ببراعة الاحتفاظ بمكانته في قلوبنا، وتأدية مهمته على أكمل وجه، كما فعل في أحدث أفلامه المعروضة حالياً في الصالات، «حرب مع جدي».الفيلم الأمريكي الكوميدي الاجتماعي يستند في أحداثه إلى قصة بالعنوان نفسه «حرب مع جدي» (1984) للكاتب روبرت كيمل سميث الذي توفي في إبريل/ نيسان الماضي، أعاد كتابتها سينمائياً توم أسل، ومات إمبر، وأخرجه تيم هيل. ويحسب البعض أن إخراج مثل هذه النوعية من الأفلام العائلية الكوميدية بسيط، وأنه لا يتضمن ما يستحق العناء في اختيار المناظر، واللقطات، والألوان، لإبهار المشاهدين؛ لكن تيم هيل قرر أن يمتع الجمهور بمناظر جميلة، وألوان رائعة، وتصوير من زوايا مختلفة غير تقليدية، تخدم المشهد من حيث المعنى، والمضمون، بجانب طبعاً اللقطة الجميلة.«حرب مع جدي» يتناول قصة مراهق اسمه بيتر، (أوكس فيجلي)، في الصف الخامس، يعاني التنمر في مدرسته، ككثير من زملائه الذين لا يجرؤون على مواجهة مجموعة من الطلبة المتنمرين. في المقابل نرى جده إد، (روبرت دي نيرو)، المتقاعد، يجد صعوبة في التعامل مع آلات الدفع بالبطاقة في البقالة، وكل ما هو إلكتروني حديث مثل ألواح ال«آي باد»، والألعاب. ويضطر للرضوخ لابنته الوحيدة سالي، (أوما ثورمان)، التي تسعى إلى حمايته من نفسه، خصوصاً بعد وفاة والدتها، وحزنه الشديد عليها. سالي تجبر والدها على الإقامة في منزلها، وتحديداً في غرفة بيتر الذي ينتقل رغماً عنه إلى «العليّة»، حيث الفئران، والحمام، والعصافير تدخل، وتخرج بلا مشاكل.أحد رفاق الصبي ينصحه بشن حرب على الجد كي يسترجع منه حقوقه المسلوبة رغماً عنه. وفي المساء يكتب رسالة إلى جده ويمررها له من تحت باب غرفته، هي بمثابة «إعلان للحرب» إذا لم تتم الاستجابة لمطالبه، وهي استعادة الغرفة خلال مهلة لا تزيد على 24 ساعة. الجد لا يأخذ الأمر على محمل الجد، خصوصاً أن الرسالة تحمل توقيع «المحارب السري». وفي الصباح يتعامل مع حفيده كأنه لم يقرأ شيئاً، ما يزيد الصغير إصراراً على تلقين الجد درساً، وشن هجوم كي يخيفه، فيستسلم. لقاء رائع ليس روبرت دي نيرو (77 عاماً) النجم السبعيني الوحيد الذي يؤدي دور الجد المتقاعد في «حرب مع جدي»، بل يشاركه في البطولة وفي المعركة، صديقاه داني (شيش مارين)، وجيري (كريستوفر والكن)، وتنضم إليهما لاحقاً دايان (جاين سيمور). لقاء رائع يرفع من قيمة العمل ويمنحه جرعة كوميدية عالية تدفعك للضحك بشكل شبه متواصل، خصوصاً حين تحتدم المعركة بين فريقي المتقاعدين، والصغار.ولا يفوت الكاتب استيقاف المشاهدين، خصوصاً الصغار والمراهقين، لتنبيههم إلى بعض القيم الاجتماعية، والإنسانية، والأخلاقية المهمة، فحين يجبر بيتر جده على دخول «الحرب»، يدعوه الأخير إلى اجتماع طارئ، يضع فيه قواعد الحرب، شارحاً للصغير أن للحروب قواعد وشروطاً يجب الالتزام بها من الطرفين، ومن الشروط «لا خيانة، وعدم الإضرار بالمدنيين»، المقصود بهم سكان البيت الآخرون. ويتفق «الجندي السري»، و«الجندي القديم»، كما يسميان نفسيهما، على أن تبقى حربهما سرية كي لا تغضب سالي، وزوجها آرثر، (روب ريجل)، الذي بالكاد يتقبله إد، ويتفاهم معه.كوميديا عالية، وضحك من القلب، تشويق مستمر، وترقب للمقالب، وما يخططه كل طرف للإيقاع بخصمه والانتصار عليه. ولعل من أظرف المشاهد رغوة الحلاقة التي يضعها الجد على ذقنه فتتجمد كالأسمنت، وتآمر المتقاعدين على المراهقين، ومعركتهم في غرفة القفز ورمي الكرات، كذلك وقوع داني، وخروج طقم أسنانه من فمه.يحاول الجد عقد معاهدة سلام مع حفيده، بحضور طرف ثالث محايد، وهي الحفيدة الصغرى جينيفر، (بوبي جانيون)، مصراً على بيتر الانتباه إلى أن الحرب ليست لعبة، إنما فيها قتل، وبؤس، وأذى لكل الأطراف. تفشل معاهدة السلام، وتستمر الحرب، وتتصاعد وتيرتها إلى أن يشمل ضررها باقي أفراد الأسرة. صحيح أننا نستمتع بفنون الحرب، والخطط السرية لكل من الحفيد، وجده، لكن العمل يتميز بنقاط توجيهية ضرورية ومهمة، مثل الالتزام بقواعد الحرب، عدم الغدر، والالتزام بالأخلاق والقيم، وحماية الآخرين.. ومن النقاط المهمة التي يركز عليها المؤلف، وعمل المخرج على إبرازها بشكل جيد، هي أن «الحرب تبدأ، ولا تنتهي، عدوك يواجهك بشيء سيئ، فتضطر للرد عليه بما هو مثله، أو أسوأ منه، وهكذا تتطور المعركة وتكبر ويسقط ضحايا كثر وتقع أضرار أكبر». نجوم وأبطال لن نفسد على القراء كثير من التفاصيل المهمة في الفيلم، ولا النهاية التي تأتي مرضية، وجميلة. إنما نكتفي بالإشادة بالمخرج الذي اختار كل ممثل في مكانه المناسب، وقدم مجموعة نجوم وأبطال في قالب كوميدي ذي معنى، ولا يأتي ليبيعنا الضحك بلا مقابل يفيدنا، ونستمتع به. روبرت دي نيرو كعادته متألق، وسيد في ملعبه، مطواع يجيد اللعب مع الصغار، كما الكبار. أوكس فيجلي أثبت أنه نجم صغير يقف أمام عملاق بحجم دي نيرو، بكل ثقة. والقائمة تتضمن عدداً كبيراً من النجوم، حتى شقيقة بيتر الكبرى هي النجمة لاورا مارانو، التي تعتبر مساحتها في التمثيل الأقل تقريباً بين كل الممثلين الأساسيين والمعروفين. أما شيش مارين وكريستوفر والكن فحدّث ولا حرج، عن تميز أدائهما وخفة ظلهما.حضور الكبار في أعمال الصغار يزيدهم قيمة وقدراً، كما يفتح أبواباً ويمنح آمالاً كبيرة للمبتدئين، والمراهقين، والأطفال، ويساعدهم في الوصول سريعاً إلى أكبر شريحة من الجمهور. وميزة «حرب مع جدي» أنه يمنحنا المتعة والتسلية في هذا الوقت العصيب الذي يمر به العالم، بلا استخفاف، أو ابتذال، كما يقدم رسائل مباشرة تشرح معنى الحرب وتأثيراتها السلبية، وأضرارها على كل المحيطين بها، وليس مفتعليها، أو المحاربين فيها فقط؛ وأنه لا يمكن السيطرة عليها لأنها مثل كرة الثلج تكبر وتكبر كلما تمددت،وتدحرجت من مكان إلى آخر، فيدرك المرء قيمة السلام، وأهمية وجوده، والحفاظ عليه. كما يحرص على إبراز القيم الاجتماعية والتربوية، من خلال معالجة التنمر وكيفية احترام الآخرين، واحترام الأشياء، تحديداً حين يخبر الجد حفيده أنه خلف كل جدار داخل بيت قصة وذكرى، وأنه خلال مهنته في البناء، كان يحرص على طباعة صورة له مع زوجته، وإخفائها داخل أحد الجدران كي تبقى خالدة. marlynsalloum@gmail.com
مشاركة :