من الألغاز العصية على الفهم أن تكون قطر، منذ انقلاب الابن حمد آل ثاني على والده خليفة آل ثاني، في 27 يونيو 1995، محطةَ استراحةٍ أميركية وإسرائيلية دائمة، تقدم لضيوفها القهوة المُرة والمرطبات والسلطات والأسماك والقواقع البحرية بكرمٍ حاتمي لا حدود له، ثم، وفي نفس الوقت، تشاكس أميركا، وتتحالف، سياسيا وعسكريا وماليا، مع أعدائها، كلهم، إيران وحزب الله اللبناني وحماس والميليشيات العراقية المنفلتة المشهورة بأم الصواريخ، وتعارض اتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل بحدة وحماس وشجاعة منقطعة النظير. فهي، علنا، تفعل كل ما في وسعها لإلحاق أكبر أذى ممكن بأصدقاء أميركا وحلفائها في الخليج العربي ومصر والعراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن، وتنفق المليارات من الدولارات على كل منظمة أو جماعة أو عصابة تتقن مهنة التفخيخ والتفجير والذبح بالسكين، وتحتضن قادتها، وتُمدّها بكل ما تحتاجه من سلاح ومخدرات وفضائيات ومصارف ومتاجر وملاذات آمنة لكي تجاهد ضد الإمبريالية الأميركية والصهيونية، ولتحرير فلسطين، ولإعلاء راية الخلافة الإسلامية، بنوعيها الشيعي والسني، ولإقامة الحدّ على كل من لا يصلي على النبي. والأغرب من الغرابة أن الصحافة الإسرائيلية اللصيقة بحكومة نتنياهو تهاجم الأمير القطري وتبدي غضبها وسخطها عليه بسبب علاقاته المشبوهة مع الإرهاب والإرهابيين، وتطالب بردعه وعقابه، وأميركا المقيمة في القصر الأميري القطري، وفي وزارات المالية والخارجية والداخلية والدفاع، وفي غرف نوم ضباط المخابرات القطريين، غارقةٌ في سابع نومة، لا تقرأ ولا تسمع ولا ترى. مناسبة هذا الكلام مقالٌ كتبه إيدي كوهين، أستاذ الاستشراق في جامعة بار إيلان، والباحث في “مركز بيغن – السادات”، في صحيفة “إسرائيل اليوم”، هاجم فيه قطر بشراسة، معتبرا فيه أن العالم العربي سائر في اتجاه إيجابي من المصالحة والوحدة، ولكن هناك دولة عربية واحدة مارقة تخرج، بشكل ظاهري، عن الإجماع العربي المتجدد، فتدعم الإخوان المسلمين، وتموّل المنظمات الإرهابية، وهي الوحيدة التي تعارض التطبيع والسلام مع إسرائيل. وبسبب اللعبة المزدوجة التي تمارسها مع جيرانها، وبسبب دعمها للإخوان المسلمين وإيران، وبسبب نشاطها التخريبي ومحاولاتها الحثيثة الهادفة إلى إشعال نزاعات ضد الأنظمة العربية، فَرضت عليها دول الخليج حصارا في إطار خطة تهدف إلى عزلها سياسيا واقتصاديا لكي تعود إلى رشدها. لكنها اتخذت من ذلك الحصار ذريعة لكي ترتمي في أحضان الإيرانيين، ثم لاحقا في حضن أردوغان. إن تلك الدولة هي قطر التي أصبحت الخاسر الرئيسي من اتفاق تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات العربية الذي تَوافَقت عليه دول الخليج، مباشرة أو بموافقة ضمنية. فقطر هي التي تعارض، وبشكل قاطع، مسيرة السلام الحقيقي بين إسرائيل والعرب، ولا تتوقف عن بث سمومها ضد ذلك الاتفاق، من خلال قناتها الشهيرة، الجزيرة، بشكل خاص. فقد توقفت هذه القناة، منذ فترة طويلة، عن أن تكون موضوعية في نقل الخبر بمهنية وأمانة. وهنالك أمثلة كثيرة على ذلك. فهي غائبة تماما عن تغطية التظاهرات التي تحدث بين الحين والآخر في إيران، ولا تستحي من كيل المديح لشخصٍ مثل قاسم سليماني الذي قتل مئات الآلاف من أهلها العرب والمسلمين. وهي، منذ زمن بعيد، تبث برامج تحريضية قاسية ضد إسرائيل، وهي التي كانت، بالفعل، أول دولة تفتح أبوابها، علنا، لكبار المسؤولين الإسرائيليين. وجميعُنا يتذكر زيارة شمعون بيريز، وافتتاح البعثة الإسرائيلية فيها عام 1996. إلّا أن تلك العلاقات مع إسرائيل تحولت إلى سرية منذ أن تخلى الأمير الأب، حمد بن خليفة آل ثاني،عن السلطة وسلمها لنجله الأمير الحالي، تميم بن حمد آل ثاني، في يونيو 2013. وتبرر قطر سريةَ العلاقة بإسرائيل بأنها من أجل تسهيل المفاوضات بين حركة حماس وحكومة نتنياهو، وهذا غير صحيح، والسبب الحقيقي الذي يكمن وراء ذلك، في رأي الكاتب الإسرائيلي، هو تبعيتُها لإيران ولتركيا. وذلك لأن التقارب مع إسرائيل، في الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية، يعزز أمن دول الخليج المهتمة بالسلام، والمؤمنة بضرورة التوافق مع سياسة ترامب إزاء النظام الإيراني. ويختم الكاتب الإسرائيلي مقاله بالتأكيد على أن الاتفاق مع إسرائيل سوف يردع الإيرانيين، ويدعو إلى عدم السماح لقطر ولفضائيتها بإثارة النزاعات بيننا وبين جيرانها عرب الخليج. إذن، وبعد هذا المقال الإسرائيلي الغاضب على قطر وأميرها، أليس لغزا محيرا أن تستمر الولايات المتحدة في حماية قطر وأميرها، رغم أنف الإسرائيليين، ورغم تحالف القطريين التام، في جميع الأمور السياسية والعسكرية والاقتصادية والفكرية والعقائدية والإعلامية، مع نظام طهران الذي دوخ أميركا وحلفاءها، وهدد مصالحها، واغتال جنودها وضباطها. فمن أيام الخميني، وطيلة عهد ورثته المعممين الحاليين، والمرشدُ الأعلى وكبارُ أعوانه العسكريين والمدنيين لا يتوقفون عن سب أميركا وربيبتها إسرائيل، هاتفين، بقوة وحماسٍ ثوري منقطع النظير “الموت لأميركا” و”المحو الكامل لإسرائيل”. أبعد كل هذا ما زال البيت الأبيض الأميركي غير مقتنع بأن دولة قطر العظمى تحارب أميركا وتشاكسها وتخرب سياساتها ومواقفها وتحالفاتها ومصالحها في المنطقة والعالم؟ هذه هي المسألة، وهذا هو اللغز الذي يحتاج إلى فتاح فال.
مشاركة :