منذ قيام الثورة الايرانية عام 1979 وإيران تحاول زعزعة استقرار الشرق الأوسط باستخدام عملاء ومليشيات بالوكالة في الخليج والعراق ولبنان واليمن، وقد سمح استخدامها مثل هذه الجماعات في النزاعات الإقليمية بحشد مجال نفوذ كبير لها. ومع ذلك فإن فرض الولايات المتحدة سياسة «الضغط الأقصى»، بالإضافة إلى مقتل «قاسم سليماني»، يعد تراجعا واضحا في حظوظ إيران ووكلائها في الوقت الحاضر.ولمناقشة هذا الوضع عقد «المجلس الأطلسي» بواشنطن ندوة عبر الإنترنت بعنوان «التوسع الإقليمي.. المليشيات الإيرانية في المشرق العربي»؛ بهدف مناقشة التهديدات المستقبلية من العملاء الإقليميين المدعومين من إيران، أدارتها «جمانة قدور» من المجلس الأطلسي، وتحدث فيها «جويل رايبورن» نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي، و«أريان طباطبائي» الزميلة في «التحالف من أجل الديمقراطية»، و«مايكل بي هرتسوغ» من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، و«حمدي مالك» المحلل في «تلفزيون إيران انترناشيونال»، و«نافار سابان» من «مركز عمران للدراسات الاستراتيجية».في البداية ذكر «رايبورن» أن واشنطن تعتبر استخدام إيران وكلائها في الشرق الأوسط «يدخل في إطار سياسة إيران في الهيمنة والتوسع»؛ إذ أكد أن لديها «نظاما ثيوقراطيا لن يسعى إلى السلام طواعية»، وأنها «أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم»، وباعتبارها «قوة عسكرية عدوانية» فإنها تهدف إلى فرض هيمنتها على جيرانها الإقليميين. وفي تفصيله لتدخلاتها العسكرية وصفها بأنها محاولة لبناء «محميات عسكرية إيرانية» يمكن من خلالها «تهديد المنطقة بأكملها». ومن ثم اعتبرها «العامل الأكثر زعزعة للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط».من جهة أخرى انتقد الحكومات الأمريكية السابقة لفشلها في التعامل مع إيران بشكل صحيح، إذ إنها «إما لم تقدر حجم التهديد الإيراني وإما لم ترغب في الرد عليه»، في حين أن الإدارة الحالية جعلت من طهران «مركزًا» لسياستها في الشرق الأوسط، فحملة «الضغط الأقصى» أضعفت حزب الله، وجعلت الوجود الإيراني في سوريا «تحت السيطرة». وعندما سألته «قدور» عن الدليل على ذلك أوضح أنه تم منع إيران من الوصول إلى الأموال التي كانت ستذهب لتمويل «سلوكها العدواني» في المنطقة، إلى جانب حرمانها من 70 مليار دولار من عائدات النفط منذ مايو عام 2018، مع استمرار هذه السياسة الاقتصادية التي تكلفها ما يصل إلى 50 مليار دولار سنويا في المستقبل، كما أن وكلاءها بدأوا يشعرون بالضائقة المالية وأخذوا يطبقون «إجراءات تقشفية»، فضلا عن تقليص الدعاية الإيرانية بسبب نقص التمويل، كل ذلك بسبب ما وصف بـ«انهيار اقتصادي إيراني ناجم عن حملة الضغط الواسعة».وحول عدم دعم حلفاء واشنطن لها دبلوماسيا في سعيها لتجديد عقوبات منع تصدير الأسلحة على إيران أكد أن أهم جزء في سياسة واشنطن تجاه إيران هو الاعتراف بحقيقة أن إيران دولة «عدوانية ومعادية وتهديد وجودي للأمن العالمي». وفي موازنة لعدم الامتثال الأوروبي سلط الضوء على دعم الخليج لخطط واشنطن لحظر الأسلحة، كإشارة إلى أن العديد من الدول الأخرى تريد أيضًا «ردع» النظام الإيراني. وحينما سُئل عن المكان الذي يمثل أكبر تهديد للأمن الإقليمي من وكيل إيراني أشار إلى أن طهران تمتلك «تهديدًا في كل مكان»، وأنه لا يوجد سوى «فروق بسيطة وتدرجات» بين الجماعات المدعومة منها. ومع ذلك فقد أشار إلى الوضع الهش في العراق باعتباره «التهديد الأكثر إلحاحًا»، وذكر أنه مع إيران «يمكن أن يحدث أي شيء في أي وقت»، إذ «تعمل يوميا» على نسج المؤامرات والمخططات.وعندما سُئلت «طباطبائي» عن السياسات المحتملة للإدارة الديمقراطية بقيادة «بايدن»، وكيف ستتعامل مع السلوك الإيراني مستقبلا، قالت: إن المخاوف التي أوضحها «رايبورن»، بشأن إيران «ليست مجرد مخاوف للجمهوريين، وإنما يتشاركها الديمقراطيون». ومع ذلك سلطت الضوء على «الاختلافات الرئيسية» حول كيفية سعي الحزبين لتحقيق أهدافهما، وأشارت إلى أنه لا تزال هناك «حدود لما نعرفه» بشأن حكومة ديمقراطية مستقبلية، ليس فقط فيما يتعلق بالسياسات التي لم يتم تحديدها بعد، ولكن أيضًا فيما يتعلق بالسيناريو داخل طهران الذي سيرحب بوصول حكومة ديمقراطية؛ وأكدت أن الوضع «مجهول»، إذ لا يزال من الممكن وقوع العديد من الأحداث بين أكتوبر 2020 ويناير 2021، غير أنها أكدت أن العودة إلى «الاتفاق الإيراني» ستكون «في قلب» السياسة الإيرانية لإدارة بايدن.وفيما يتعلق بكيفية رد إسرائيل على تهديدات وكلاء إيران في المنطقة استعرض «هرتسوغ» التحديات الاستراتيجية التي تواجهها إسرائيل، موضحا أنه ردا على انخراط حزب الله في سوريا أقرت إسرائيل «خطوط حمراء» مختلفة بشأن نقل الأسلحة الاستراتيجية من إيران إلى حزب الله عبر سوريا. وشرح خطة إيران وسوريا وحزب الله لإنشاء «جبهة عسكرية» في جنوب سوريا لمواجهة إسرائيل، وكيف أن تطوير هذا المخطط تصاعد في عامي 2016 و2017، وأوضح أن هذا سبب «القرار الاستراتيجي» الذي اتخذته إسرائيل عام 2017 لشن حملة ضد الأعمال الإيرانية. وفي حين أنها لم تثبت فعالية بنسبة 100% إلا أنها كانت «ناجحة تمامًا» في إحباط هذه الخُطط؛ فمع مواجهة الهجمات والضغوط الإسرائيلية كان على هذه القوات «نزع فتيل» عملياتها لتصبح «أقل تركيزًا»، ما جعل تشكيل جبهة عسكرية في جنوب سوريا أمرًا مستحيلا.وعندما سُئل «مالك» عن تدهور الوضع في العراق أوضح أن الحكومة المركزية في بغداد «لا تملك القوة» لتقديم الجماعات المدعومة من إيران إلى العدالة؛ بسبب نقاط الضعف المتأصلة فيها، إذ ليس هناك سوى سيطرة فعالة على قوة مكافحة الإرهاب الصغيرة في البلاد ووكالاتها الاستخباراتية، التي تهتم بشكل أساسي بالنشاط الخارجي وليس الاستقرار الداخلي. وجادل بأن «الداخلية العراقية» «لا تنصاع» لأوامر الحكومة، الأمر الذي أدى إلى مواجهات متوترة بينهما. وللتدليل على ذلك تطرق إلى كيفية قيام رئيس الوزراء العراقي، ردا على عملية اختطاف، بإرسال قوات مكافحة الإرهاب لتعقب الجناة، بدلا من الشرطة العراقية.وفي هذا السياق أوضح أن جماعة «حزب الله» هي «أقوى وكيل إيراني في العراق»، إذ سيطرت على «مناطق محظورة» شاسعة، ودخلت مؤخرًا إلى «المنطقة الخضراء» للتقرب من المسؤولين الذين كانوا يحاولون قمع عملياتها. وعلى الرغم من أنه من المفترض أن تكون المليشيات النشطة في العراق تحت السيطرة الاسمية لرئيس الوزراء فإنه بدلا من ذلك قوضت إيران هذا التسلسل الهرمي، ووضعت الأفراد الموالين لها في قيادة المليشيات العراقية وأفواج الجيش. وشرح «مالك» كيف تمكنت الجماعة من الحصول على أموال ضخمة عبر أساليب غير قانونية، مثل تهريب النفط، وإقامة نقاط تفتيش حدودية غير شرعية، ومزادات للعملة العراقية، إذ تنتهي الأموال المكتسبة من الحكومة لاستيراد السلع وما يوقع من عقود في حوذة المليشيات.وفي حديثه عن التدخل الإيراني في سوريا ذكر «سابان» أنه في حين تركز معظم المناقشات على استخدام إيران القوة الصلبة فإنها أيضًا استخدمت تكتيكات القوة الناعمة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ومنذ عام 2017 يحاول النظام «التسلل» إلى المناطق السورية التي أعاد الجيش السوري السيطرة عليها. وفي الوقت الذي لا يملك السوريون الوسائل لإعادة بنائها فقد رأت إيران في ذلك فرصة لبناء دعم محلي من جانبها؛ ومن ثم يكون لها موطئ قدم وقاعدة قوة جديدة في المنطقة. وبالنسبة إلى سابان فإن جزءًا مهما من العملية المتعلقة بالتسلل هو «صياغة علاقات وثيقة مع الشركات والمجتمعات المحلية السورية»، إذ إن إيران تركز على «حجم مشروعاتها التدخلية»، مستهدفة بذلك دعم البلدات الصغيرة بدلا من المدن الكبرى، ويتم ذلك لتأسيس «شبكة جديدة» من الأفراد الموالين لها داخل سوريا.وردا على سؤال حول العلاقة المستمرة بين روسيا وإيران في سوريا، وما إذا كانت هذه الشراكة تظهر بوادر توتر، أجاب «سابان» أن الجماعات داخل سوريا منقسمة بين فصائل موالية لروسيا وإيران وأخرى مستقلة، وقد تفاقم هذا الانقسام بسبب تعزيز إيران وجودها العسكري في سوريا، كما أن هذه الانقسامات أدت إلى «حالة من العداء» داخل قوات النظام السوري. وهنا علق «رايبورن» بأن التوترات بين روسيا وإيران بشأن سوريا تعد أمرًا متوقعًا، إذ إن كلاهما له أهداف ورؤى متضاربة، فروسيا تهدف إلى استعادة «الأوضاع لطبيعتها قبل عام 2011، بينما تريد طهران تحويلها إلى حامية عسكرية وجزء من إمبراطوريتها».وحول مقتل «سليماني» وتأثيره على استخدام إيران وكلائها في بلاد الشام كان هناك خلاف بين المشاركين في الندوة، إذ عبرت «طباطبائي» عن مخاوفها خشية ألا تتجاوز ردود الفعل الانتقامية حجم مستوى الاستفادة من مقتله، وخاصة أن إيران أوضحت أن «الكثير من الردود الانتقامية لا تزال في الطريق»، كما أنه أيضا «من السابق لأوانه تحديد تأثير وتبعات اغتياله على وكلائها»؛ لكنها قبلت بحدوث «تحولات تكتيكية»، وأن خليفة سليماني «إسماعيل قاني» ليس «على دراية جيدة» ببلاد الشام، و«ليس لديه نفس الكاريزما التي كانت لدى سلفه».واختلف «هرتسوغ» مع هذا التقييم، وأوضح أن فوائد مقتل سليماني «تفوق بكثير أي خسائر أو تكاليف»، وأن اغتياله قد أثر بشكل كبير على قدرة حزب الله على تهديد إسرائيل. في حين وصف «رايبورن» ما قالته طباطبائي بأنه «اعتقادات خاطئة»، موضحا أنه بين عامي 2015 و2018، بعد توقيع «الاتفاق النووي»، وسعت إيران بشكل كبير إجراءاتها العدوانية، ولم يتوقف هذا الأمر إلا مع حملة «الضغط الأقصى» واغتيال «سليماني»، مؤكدا أن اغتياله «تأخر كثيرًا»، إذ كان «يخطط لشن هجمات» على القوات الأمريكية وحلفائها. وذهب إلى أبعد من ذلك، واصفًا الانتقادات الموجهة إلى واشنطن بأنها «منحرفة بعض الشيء»، وخاصة أن «الدول كلها تعرف أنه كان قاتلا. وتعقيبا على ذلك ردت «طباطبائي» بأنه في حين أن إيران صعدت دعمها لوكلائها بين عامي 2015 و2018 فإن استخدامها لوكلاء إقليميين كان إجراءً تم استخدامه عقودا عديدة منذ ثورتها عام 1979، ومن «الخطأ» القول إن «الاتفاق النووي» كان سببا في تزايد هذا الاستخدام.على العموم، قدمت الندوة عرضا قيما ومعلومات ثرية حول تصرفات إيران الإقليمية ودعمها لوكلائها الإقليميين في الشرق الأوسط. وفي حين اتفق المشاركون حول هذه الأدوار كان هناك خلاف واحد بين «رايبورن» و«طباطبائي»، حول مسألة ما إذا كان مقتل سليماني قد أضعف وكلاء إيران الإقليميين أم لا. وعلى الرغم من النطاق الواسع للقضايا المرتبطة بالندوة فإن هناك قضايا لم تمس، مثل التدخل الإيراني في اليمن، وفي شؤون دول الخليج. ولعل الاستنتاج النهائي الذي يجب استخلاصه هو أن حملة «الضغط القصوى» إلى جانب مقتل سليماني قد أثرت بشدة على التمويل الإيراني لوكلائها. ومع ذلك فإنهم لا يزالون نشطين بلا شك في لبنان والعراق وسوريا واليمن، ويمثلون تهديدًا أمنيا كبيرًا للولايات المتحدة والخليج ولجميع دول المنطقة.
مشاركة :