الصراع بين جمهورية أذربيجان وجمهورية أرمينيا ليس وليد اللحظة وإنما تعود جذوره إلى عشرينيات القرن الماضي في بداية الحقبة السوفيتية بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا وتشكيل الاتحاد السوفيتي الذي ضم العديد من الجمهوريات التي كانت تدور في فلك الإمبراطورية الروسية، ومنها هاتان الجمهوريتان.وبما أن الاتحاد السوفيتي ضم في تركيبته جمهوريات من مختلف الأعراق والأجناس والمعتقدات، فقد عملت القيادة السوفيتية، وخصوصا خلال فترة حكم الرئيس السوفيتي جوزيف ستالين، على انتهاج سياسة قائمة على مبادئ محاربة النعرات القومية والعرقية في إطار تعزيز وترسيخ دولة متعددة القوميات تحت راية القومية السوفيتية، ولذلك ضم ستالين إقليم ناجورنو كاراباخ ذا الأغلبية الأرمينية إلى جمهورية أذربيجان.وإقليم ناجورنو كاراباخ إقليم جبلي يقع في جنوب القوقاز فقير يعتمد في موارده على الزراعة وتربية الماشية ويبلغ عدد سكانه 145 ألف نسمة غالبيتهم من الأرمن من الديانة المسيحية الأرثوذكسية، ويقع على مقربة من روسيا وتركيا وإيران، ولذلك شهد صراعات بين الإمبراطوريات المختلفة الروسية والعثمانية والفارسية للسيطرة عليه.وبقي الوضع على ما هو عليه بسبب صرامة تعامل القيادة السوفيتية مع مسألة النعرات القومية ومحاربة التوجهات الانفصالية ذات النزعة القومية إلى عام 1988 خلال حكم آخر رئيس للاتحاد السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، الذي انتهج سياسة البيروسترويكا التي صفق لها الغرب، ما شجع مجلس السوفييت لإقليم ناجورنو كاراباخ على تقديم طلب إلى القيادة المركزية في موسكو بضم الإقليم إلى جمهورية أرمينيا في ظل معارضة شديدة من جانب جمهورية أذربيجان ومنذ ذلك الحين والإقليم يعيش فيما يشبه حالة حرب أهلية غير معلنة بين الجمهوريتين السوفيتيتين السابقتين، والتي خلفت القتلى والجرحى والمشردين واللاجئين الذين يعيشون في معسكرات بالقرب من العاصمة الأذربيجانية باكو.وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 قرر الانفصاليون في إقليم ناجورنو كاراباخ الانفصال عن أذربيجان وعدم الانضمام إلى أرمينيا وإعلان الإقليم جمهورية مستقلة لم يعترف بها أحد.في عام 1994 توصلت الجمهوريتان إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بإشراف «مجموعة مينسك» المكونة من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بالإضافة إلى روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا إلا أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام يحدد مستقبل هذا الإقليم الذي ظل مسرحا للعمليات العسكرية والحربية في معارك بين مد وجزر بين فترة وأخرى، والتي كان آخر ما يجري حاليا من أعمال عسكرية هي الأخطر والأشد، وخصوصا بعد تدخل تركيا ومشاركتها في الأعمال العسكرية إلى جانب جمهورية أذربيجان من خلال إرسالها المرتزقة من سوريا ومد أذربيجان بالعتاد والسلاح، ما استدعى تدخل الاتحاد الأوروبي وروسيا ودعوة تركيا إلى عدم تدخلها في الصراع الدائرة في الإقليم ووقف الأعمال العدائية والالتزام باتفاقية وقف إطلاق النار الموقعة بين الطرفين في مينسك والبدء في مفاوضات جادة بدون شروط مسبقة.التدخل التركي في الصراع الدائر بين أذربيجان وأرمينيا يأتي ضمن توجهات الرئيس رجب طيب أردوغان بإحياء الامبراطورية العثمانية ولو على حساب أمن واستقرار الإقليم الذي يعاني من حالة عدم الاستقرار، هذا التدخل الذي قد يؤدي إلى تدخل أطراف أخرى، وخصوصا روسيا التي تعتبر هذه الجمهوريات مجالها الحيوي وعلى مقربة من حدودها، آخذة بعين الاعتبار أن التدخل التركي له أسباب عقائدية قد يؤثر سلبا على أمن واستقرار روسيا التي تضم في تركيبتها العديد من الجمهوريات الإسلامية ولا تريد إعادة سيناريو حرب الشيشان التي كلفت روسيا الكثير، فضلا عن أن أرمينيا تدين بالمسيحية وأذربيجان بالإسلام، ما يهدد بتحول الصراع من عرقي إلى ديني وجر دول أخرى إلى هذا الصراع، وأول المؤشرات دعوة أرمينيا إيران إلى عدم التدخل في الصراع.ونعتقد أن إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تقديم مبادرة لإنهاء النزاع في ناجورنو كاراباخ أثناء انعقاد قمة الاتحاد الأوروبي من خلال مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا خطوة في الاتجاه الصحيح، حيث إن هذه المبادرة ستضع حدا للتدخل التركي في النزاع وجر أطراف النزاع إلى طاولة المفاوضات لحل الخلاف بالطرق السلمية لأن أي من الطرفين لن يستطيع حسم النزاع عسكريا، وقد أثبتت التجربة ذلك على الرغم من أن الحروب التي دارت وخلفت القتلى والجرحى والدمار لم تحسم مصير هذا الإقليم الفقير المتنازع عليه.
مشاركة :