ينتظر العالم العربي، كعادته، النتائج التي ستتمخّض عنها الانتخابات الأميركية، التي ستجرى بعد ثلاثة أسابيع، على أمل أن يحدث ذلك فرقا في السياسات التي تنتهجها الدولة الأقوى والأغنى والأقدر في العالم، إزاء قضاياه، ومشكلاته، الكثيرة والمتنوعة والعميقة. وكما جرت العادة فإن نتيجة تلك الانتخابات، سواء كانت لصالح ولاية ثانية لدونالد ترامب مرشح الحزب الجمهوري، أو لصالح جو بايدن، مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة، لن تأتي بفارق كبير، مع الأسف، بمعنى أن ذلك لن يغيّر كثيرا في السياسة الخارجية الأميركية من الناحية العملية، وأن الفارق سيكون فقط في اللهجة، أو في السلوك الدبلوماسي، من سياسة خشنة ومباشرة إلى ناعمة ومواربة. ولعل ما يفترض إدراكه هنا أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية تتسم بالاستمرارية، بحكم أن المؤسسات واللوبيات ومراكز صنع القرار هي التي تصنع تلك السياسة، مع دور أقل للرئيس، وهذا ينطبق على قضايا الشرق الأوسط، ولاسيما قضايا فلسطين وسوريا والوجود الإيراني في المنطقة، إذ هنا تتمثل مصالح الولايات المتحدة كدولة، في حين أن الرئيس (وحزبه) يتمتع بحيز أكبر في صياغة السياسات والقرارات الداخلية، أي حيث تتمثل المصالح المباشرة للناخبين الأميركيين، الذين يعطون الأولوية للشأن الداخلي ولأحوالهم المعيشية (الضرائب، الصحة، التعليم، العمل، البنى التحتية). هكذا، يمكننا أن نلاحظ أن سياسات ترامب لم تختلف كثيرا عن سياسات سلفه أوباما، بخاصة في الشأنين الفلسطيني والسوري، أقصد من الناحية العملية، في حين كان باراك أوباما أكثر نعومة وتفهما لكن من الناحية النظرية فقط. وفي الواقع فإن السياسات التي انتهجها الرئيس أوباما خيّبت آمال الكثيرين، أنظمة وحركات سياسية، لاسيما في ما يتعلق بالسكوت عن النظام السوري واللامبالاة إزاء مأساة السوريين، والضغط على إسرائيل بشأن حقوق الفلسطينيين، ومواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة العربية. بيد أن تلك الخيبة والصدمة الناتجة عنها، تعتمدان على قراءة قاصرة وجزئية، لسياسة الولايات المتحدة، كأن تلك دولة عادية وليست دولة عظمى، أو كأنها تشتغل طوع رغبات ومصالح هذا الطرف أو ذاك، أو كأن محرّكها يتأسس على ثوابت معيّنة سياسية أو أخلاقية أو أيديولوجية. تتجلّى القصة في أن كثيرين عندنا يفكّرون في السياسة بعواطفهم ورغباتهم ومصالحهم وبعقليتهم، بمعنى أنهم لا يفكّرون فيها من منظور الدول الأخرى، أي رؤيتها لذاتها ولمصالحها، وهذا يصحّ على السياسة التي انتهجتها إدارة أوباما، أعجبتنا أم لم تعجبنا. ناحية أخرى وهي أن هؤلاء يعتقدون أن الدول العربية لديها ما تضغط به على الولايات المتحدة لدفعها نحو انتهاج سياسات تتلاءم مع المصالح العربية، في هذه القضية أو تلك، في حين أن الأمر ليس كذلك، إذ الولايات المتحدة هي التي تملك أوراق الضغط والقوة، بخاصة أن تجربتها تؤكد بأنها مهما فعلت فإن الدول المعنية لن تستطيع، ولا تملك، الخروج عن طوعها، وعن الاعتمادية عليها، لاسيما في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والأمنية، ما يفسّر صعوبة الانفكاك السياسي عنها. وإضافة إلى هذا وذاك، فإن البعض يفكر أن السياسة الأميركية تتحدد بناء على المعايير ذاتها التي تجري في العالم العربي، حيث الرئيس هو الذي يقرر كل شيء، في السياسات والخيارات. لا شكّ أن السياسات الشرق أوسطية لإدارة أوباما مخيّبة جداً، فهي سلمت العراق لإيران، بعد انسحابها منه، بل إنها بدت كأنها تسهل عليها تعظيم نفوذها، من اليمن إلى لبنان، مرورا بالعراق وسوريا؛ هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن هذه الإدارة تمنّعت عن القيام بأي عمل لوقف تدهور الأوضاع في سوريا، بل تركت النظام يمعن فيها قتلا وتدميراً، ثم لزّمتها لروسيا. وفوق هذين فهي نأت بنفسها عن أي ضغط على إسرائيل يصبّ في إنصاف حقوق الفلسطينيين، وحتى أنها بلعت كل كلامها عن تجميد الاستيطان. لكن ما يفترض إدراكه هنا، أيضاً، أن الولايات المتحدة تتصرّف على هذا النحو على قاعدة فهمها لمصالحها كدولة عظمى لم يعد يهمّها من يسيطر مباشرة في هذه المنطقة (لا روسيا ولا تركيا ولا إسرائيل ولا إيران)، طالما أن ذلك يحفظ مكانتها، ويصون مصالحها، ولا يمسّ بأمنها، بخاصة مع انزياح اهتماماتها نحو جنوب شرق آسيا، وتزايد اعتمادها على مخزونها من النفط والغاز. ولعل هذا ما يفسّر واقع أن الإدارة الأميركية، في عهد ترامب، ظلت تتفرج على ورطة الجميع، أي روسيا وإيران وتركيا، وأنها ظلت تشتغل على استنزافهم وإنهاكهم وضربهم ببعض، وهذه ليست إدارة ظهر، وإنما لعب وتورية وليست إدارة صراع أو أزمة وإنما كاستثمار فيهما، مع إدراكها لقدرتها على التحكم، وامتلاكها أوراق القوة، فهي التي تقرر الحسم ومتى. مع ذلك يفترض أن نلاحظ مسارين مهمين وخطيرين، أولهما، خراب المشرق العربي، وتصدع مجتمعاته، لاسيما العراق وسوريا. وثانيهما، ضمان أمن واستقرار إسرائيل لعقود، والولايات المتحدة ليست بريئة لا من هذا ولا من ذاك، مع مسؤولية حكوماتنا عن كل ما يجري لنا ومن حولنا. على ذلك، من ينتظر جديدا، من الناحية العملية، لن يجده، بغض النظر عمن سيسكن في البيت الأبيض الأميركي، للسنوات الأربع القادمة، سواء كان ترامب أو بايدن. نقلا عن "العرب"
مشاركة :