دخلت الولايات المتحدة في الربع الأخير من رحلة الألف ميل الانتخابية، وبدأت عملية تصويت جزئية طاولت أكثر من أربعة ملايين ناخب أميركي حتى قبل موعد الانتخابات الرسمي في الثالث من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، حيث سيواجه الرئيس الحالي دونالد ترامب أكبر تحدٍ له في زمن أدى فيه وباء كورونا الذي عصف بالولايات المتحدة منذ بداية السنة الجارية، الى إذابة التقدم الكبير الذي كان يحظى به في استطلاعات الرأي للناخبين. فالأزمة المالية – الاقتصادية التي خلفها انتشار وباء كورونا ضرب اندفاعة ترامب بقوة، ومنح منافسه الديموقراطي جو بايدن تقدماً ملحوظاً، خصوصاً أن ترامب كان يعوّل في ما يعول عليه على النتائج الاقتصادية الإيجابية التي حققتها الولايات المتحدة خلال السنوات الثلاث الأولى من ولاية ترامب الرئاسية. نحن إذاً أمام معركة قاسية، تبدو فيها حظوظ المرشح الجمهوري ترامب متراجعة كثيراً، من دون أن يعني ذلك أن الانتخابات ستكون خالية من المفاجآت في الأسبوع الأخير للسباق الرئاسي. كل الاحتمالات واردة في الانتخابات الأميركية، والتجربة علمتنا أن ما تخرج به مؤسسات الاستطلاع لا يعكس بالضرورة الحقيقة. لكن أين منطقة الشرق الأوسط والدول العربية وإيران وإسرائيل وتركيا من مسألة الانتخابات، ولماذا يلمس المراقب السياسي أن الجميع في المنطقة يترقبون الانتخابات الأميركية وكأنها انتخابات محلية، ويبنون عليها حسابات سياسية تكتيكية أو استراتيجية للمرحلة المقبلة؟ بداية لا بد من الاتفاق على مسلّمة واحدة، وهي أن الولايات المتحدة، وعلى رغم نهوض قوى إقليمية في مناطق متفرقة من العالم، وقوة الصين الاقتصادية والمالية والعسكرية، وعودة روسيا في ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين الى تأدية دور جيواستراتيجي في العديد من المناطق، تبقى القوة الأولى في العالم على أكثر من صعيد، اقتصادياً ومالياً وعسكرياً. كما أن نفوذها كوني يقابله نفوذ القوى المنافسة كالصين وروسيا، وهو أكثر محودية، وأقل تأثيراً اذا ما قيس بامتداده على كامل الكرة الأرضية. في الشرق الأوسط أكثر من لاعب، والأهم هو عودة روسيا الى تأدية دور متقدم، فيما الصين تبقى في الخلف، وإن وقّعت قبل مدة على اتفاق إستراتيجي مع إيران، إنما تبقى أميركا القوة الأكثر تأثيراً، وهي التي تنتظرها جميع الدول في المنطقة، بما فيها تلك القوى التي تناصبها العداء مثل إيران، وتنتظر كلمتها، ومواقفها، وتحركاتها المؤيدة أو المعارضة هنا أو هناك. ثمة من يدعو في المنطقة الى عدم المراهنة على نتائج الانتخابات الأميركية، لكن ثمة من يقول في المقابل إن واشنطن أثبتت حتى اليوم أنها عندما تأخذ خياراتها الاستراتيجية في المنطقة فهي تمتلك القدرة على قلب الطاولة فوق رؤوس الجميع، أكانوا حلفاء أم خصوماً. فخيارات إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش بعد هجمات 11 ايلول (سبتمبر) 2001، أسقطت العراق، وغيرت وجه المنطقة من دون أن يقف في وجهها أحد. وخيارات إدارة الرئيس باراك أوباما شكلت تحولاً كبيراً أدى الى نتائج ساهمت في تغيير وجه المنطقة في اتجاه آخر، كفتح الباب أمام توسع إيران الكبير وصولاً الى شاطئ المتوسط، وذلك في أعقاب توقيع الاتفاق النووي مع إيران. أما خيارات إدارة الرئيس دونالد ترامب فغيرت الوجهة تماماً، وذلك من خلال خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وإطلاق سياسة معادية لطهران حاصرتها، وكادت او تكاد تدمر اقتصادها، وتجفف منابع تمويل أذرعها في المنطقة، وعلى رأسهم "حزب الله" في لبنان. ولا ننسى انه في خلال ولاية ترامب أطلقت حملة غير مسبوقة من الضربات الأميركية والإسرائيلية استهدفت منع إيران من التمدد عبر العراق وسوريا وصولاً الى هز استقرار قاعدتها اللبنانية التي نجح "حزب الله" في تأمينها وتحويلها الى ملاذ مالي، اقتصادي، أمني وعسكري! هذه عيّنة صغيرة ومحدودة جداً من الحقائق التي تبرر مراهنة قيادات المنطقة على نتائج الانتخابات الأميركية المقبلة، لا سيما أن سياسات مطلق أي إدارة أميركية مؤثرة للغاية في مصالح الدول، والقوى الإقليمية مهما كبر دورها. فغياب أميركا له نتائج، كما أن تكثيف حضورها له نتائج أيضاً، ولا توجد لغاية اليوم أي قوة عظمى تجاري نفوذها وتأثيرها وإن تكن هذه الأخيرة قادرة على إعاقة سياسات واشنطن في أكثر من مجال. ربما وحدها إسرائيل، ومن خلال قوة اللوبي المؤيد لها في الولايات المتحدة قادرة على تجاوز التحولات في سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة. أما سائر دول المنطقة وقواها الإقليمية مثل تركيا وإيران، فتبقى مضطرة لانتظار نتائج الانتخابات الأميركية، لتحديد خياراتها الإقليمية والمحلية على أكثر من صعيد. فحتى إشعار آخر تبقى المعادلة قائمة... * نقلا عن "النهار"
مشاركة :