هناك درجات في مدى مشاركة المواطنين في عملية التنمية ما بين مجتمع نامٍ تحبو فيه المؤسسات ليكون لها دور، وآخر متقدّم تهيأت واستقرت فيه هذه البنية المؤسسية بتقديم الخدمات في مقابل ضرائب يدفعها المواطن وهو راضٍ لجودة ما يقدّم له. وهذه العلاقة ما بين الدولة والمواطن تفسّر في إطار التنمية بالمشاركة، التي تتحوّل إلى تقدير ومسؤولية من الفرد تجاه الممتلكات والخدمات العامة التي يدفع في سبيل الاستفادة منها. وقد يأخذ شكل التنمية بالمشاركة أوجهاً متنوعة في الدول التي تسعى إلى النمو والنهوض ولم تستقر فيها الأوضاع في الشكل المؤسسي، أبرزها مشاركة المجتمع في ملكية المشاريع الكبرى التي يكون وجودها رهين توافر الرأسمال المادي، ويكون المجتمع نفسه أحد مصادره لو أحسن استخدامه بأن تكون هناك رؤية واضحة في فلسفة بناء المشاريع الكبرى التي يستفيد منها المجتمع ككل. وهنا يجب التفريق بين الملكية العامة والملكية الخاصة وعدم الذوبان فيهما، لأن نجاح فكرة المشاريع الكبرى سيكون مقروناً باحترام الملكيات الخاصة. فدافع الأفراد للمساهمة في مشروع قومي ينبع من أسباب وطنية في الأساس، إضافة إلى سبب الملكية والمنفعة التي تعود عليهم. وفي هذا الشكل يتم توسيع مفهوم المشاركة والانتقال به من معناه الضيّق، الذي يترجم بالسلبية في حال اقتصاره على المشاركة السياسية في شكل عملية الانتخاب ليأخذ حيزاً اقتصادياً واجتماعياً وحتى حضارياً، وهو ما يعكس وجهاً آخر لمفهوم المواطنة الذي لا يقتصر على التصويت في الانتخابات، وإنما يشمل مشاركات أخرى تكون أكثر فاعلية لو تم تسخيرها في مشاريع تكون أهدافها عامة ومفيدة للجميع بعيداً من التوظيف الديني والسياسي، وهو في حال سريانه سيحمل في داخله عوامل نجاحه بقدرته على التسريع بعملية التنمية لانتقالها من مركزية الدولة إلى اللامركزية، بمشاركة أفراد المجتمع في شكل نفعي في مشاريع قومية كبرى. وهذا المدخل في التنمية جرّبته مصر في فترة سابقة بإنشائها «بنك مصر» في عهد سيطرة البنوك الأجنبية في العشرينات، وساهم المصريون بأموالهم في إنشائه ليكون مصرفاً وطنياً، تمخّضت عنه مجموعة من المشاريع والشركات والمصانع في مراحل لاحقة تركت أثرا إيجابياً في المجتمع، من خلال إنشاء مصانع النسيج في المحلّة، كما أنها امتدت في مشاريع حضارية بالمساهمة في صناعة السينما بإنشاء «استوديو مصر» الذي تمت داخله صناعة أفلام العصر الذهبي للسينما المصرية. وإذا كانت مصر على مدار العقود الماضية افتقدت رائحة المشاريع الكبرى، فيبدو أنها لو سارت على النهج الذي تسير عليه الآن، بتدشينها مشاريع قومية مثل مشروع القناة الجديدة، تكون أعادت هذه الثقافة إلى الوعي الجمعي لدى المصريين، بفتح الباب أمام الجميع لشراء أسهم ذات عوائد في هذه المشاريع مضمونة الربح. وهذه الفكرة يمكن تكرارها في مشاريع وطنية أخرى بالاقتداء فيها بمشروع قناة السويس الجديدة، واللجوء إلى مساهمة المصريين حتى لو بأقل القليل. فما كان يلفت النظر في المرحلة التي غابت فيها فكرة هذه المشاريع، انتشار ظاهرة توظيف الأموال لشركات خاصة بأفراد، تقوم بتجميع أموال كثيرة بعائد لأفراد كانت تنتهي في غالبيتها بكارثة لأصحاب الأموال. وهو ما كان يفسّر ثراء المجتمع بطاقته المادية التي تبحث عمن يوظّفها. كما أنها عكست أيضاً في هذه الفترة غياب الوعي بفكرة المشاركة الاجتماعية في المشاريع الكبرى التي تعود بالنفع على المجتمع كلّه. ويعالج انتشار ثقافة التنمية بالمشاركة الآثار السلبية الناتجة من فشل القطاع العام ذي المشاريع التي انتشرت عقب ثورة 52، وأثبتت فشلها لسوء الإدارة وتفشّي الفساد وغياب الحافز في هذا القطاع لمضاعفة الإنتاج، كونها مملوكة للدولة المركزية والأفراد مجرد موظفين فيها، فأصبحت عبئاً يأخذ من رأسمال الدولة وميزانيتها، الى الدرجة التي أصبح كل ما هو ملك القطاع العام مباحاً للسرقة والنهب في عقلية الموظفين والمواطنين. فالتنمية بالمشاركة تقدّم مخرجا لفشل تجربة القطاع العام بالحفاظ على الملكيات العامة التي تعكس مشاركة حقيقية للمواطنين، وتتيح للمواطن في الوقت نفسه أن يشعر بإحساس الملكية والمسؤولية عندما يكون مساهماً فيها بماله ويجني عوائد نجاحها. ويمكن بهذا، الانتقال بمفهوم المشاركة في التنمية بالنهج الاقتصادي السابق نفسه، ليأخذ أشكالاً أخرى اجتماعية وحضارية بعيداً من التوظيف الفئوي والأيديولوجي، بانتقال هذا المفهوم من معناه الضيّق للمشاركة في اختيار من يحكمونه من طريق الانتخابات إلى المشاركة في التنمية. في الحالة الأولى، المشاركة تحمل في جنباتها مضامين سلبية من الاتكالية والارتكان إلى أن من انتخبناهم ينوبون عنا أمام الدولة، سواء في البرلمان أو المواقع التنفيذية، إلى المعنى الثاني الأهم الذي تتم فيه المساهمة الفعلية للأفراد سواء بالجهد أو المال، في عمليات التنمية التي ينالون نصيبهم منها مثلما ينال المجتمع ككل منها. ومن خلال هذا النمط من التنمية بالمشاركة، يتم تفعيل قيمة الولاء وحبّ الوطن، بربطها بمنفعة خاصة أو بعائد مادي يفيد صاحبه، كما سيكون أفراد المجتمع حائط صد أمام ثقافة الهدم والإرهاب، بخلق هذه الرابطة النفعية داخل المجتمع.
مشاركة :