تدخل القوى السياسية في السودان بعد أن انفضت من مفاوضات مضنية تهدف إلى تحقيق الاستقرار بعد الإطاحة بحكم عمر البشير، في مرحلة مهمة ألا وهي تنفيذ بنود اتفاق السلام على الأرض، رغم وجود بعض العراقيل، التي ربما تقف حائلا دون بلوغ الأهداف المرجوة في مسار اقتسام السلطة والثروة وبناء مؤسسات الدولة وصولا إلى كيفية حل الأزمة الاقتصادية الخانقة. القاهرة - تنتظر جهات عديدة تصرفات القوى السودانية مع إرث كبير من المشكلات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية، وتداخلات واسعة أخرى في جملة من القضايا الشائكة بعد أن انطلق قطار السلام بتوقيع اتفاق جوبا. وستحدد طريقة تعامل الأطراف السياسية مع كل تلك التحديات ملامح النجاح لعبور البلاد إلى بر الأمان، أو الفشل والعودة إلى مربع الصفر، فالنظرة العامة للأمر تجعل من الخيارين متساويين، وتضع على عاتق القوى المختلفة، في الحكم والمعارضة، مسؤولية يجب التعامل معها بصورة صحيحة. ويمثل توقيع اتفاق السلام بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية أول ثمرة حقيقية جنتها البلاد منذ تشكيل السلطة الانتقالية، عقب فترة من التجاذبات، تغلبت فيها الخرطوم على الكثير من العراقيل، التي وضعت من قبل قوى مشاركة في السلطة ومن خارجها. وإذا كانت خطوة الوصول إلى اتفاق استغرقت نحو عام، فكم من الوقت يحتاج السودان لإعادة توزيع السلطة والثروة، واستكمال بناء الهياكل السياسية والعسكرية، وتثبيت الأركان الرئيسية للدولة، والخروج من الأزمات الاقتصادية المتراكمة؟ والآن، راحت السكرة وجاءت الفكرة، كما يقولون، فتوقيع اتفاق السلام في جوبا الأسبوع الماضي مع حركات مسلحة وتنظيمات سياسية فتح الباب أمام طرح سلسلة من القضايا يجب إيجاد حلول عاجلة لها، لمنع انحراف البلاد عن الطريق الذي رسمته قوى الثورة على نظام الرئيس السابق عمر البشير، وتسهيل مهمة طبقة جديدة في الحكم. فنون السلام خبرت القيادات التي خاضت صراعات طويلة مع الحكومة المركزية في أقاليم الهامش فنون الحرب، لكنها لم تختبر فنون السلام، لأن كل محاولات الوصول إلى الأخيرة خابت في الماضي، وبدت الخبرات المتراكمة منصبة على الأولى، وهي أزمة يمكن أن ترخي بظلالها على مدى الانسجام بين مكونات الطبقة الحاكمة. وهبت نسمات سياسية ليّنة، الخميس الماضي، مع الإعلان عن قرب إطلاق قطار المفاوضات مع الحركة الشعبية، جناح عبدالعزيز الحلو، وعدم استبعاد فتح خطوط اتصال مع حركة جيش تحرير السودان، بقيادة عبدالواحد نور، وهما أبرز حركتين خارج أطر الجبهة الثورية، وظل شبح مناوشات كلاهما يهدد من قريب العملية التفاوضية. وقد لا يحتاج التفاهم مع الأولى وقتا طويلا، لأنه جرى التوافق على عدد كبير من المضامين الخلافية خلال لقاءات جمعت فريقي السلطة والحركة، بينما تظل العقبة في الثانية التي وضعت شروطا قاسية للانخراط في مفاوضات خاصة، ربما لتعظيم مكاسبها، أو انتظارا لتحقيق بعض مطالبها في السلطة والثروة. ويتداول سودانيون مجموعة حرجة من الأسئلة حول مصير السودان الجديد، وإشكاليات المرحلة الثانية من الفترة الانتقالية، والشروع في تعديل الوثيقة الدستورية، وتقاسم السلطة في مجلس السيادة والحكومة والولايات، وهل يتم الانتظار لحين توقيع اتفاق سلام مماثل مع حركتي الحلو ونور؟ وبعد ظهور مناوشات بين حزب الأمة القومي والجبهة الثورية حول تشكيل المجلس التشريعي، بدا تساؤل يدور حول هل يسبق ذلك تعديل الوثيقة أم العكس، وكذلك تداعيات التغييرات في الأجسام السياسية على قرارات السلطة الانتقالية، خاصة أن ثمة إرهاصات تطالب بإجراء انتخابات عامة منعا للدخول في نفق جديد لتوزيع المناصب. ومع توقيع اتفاق السلام تحول الفرح إلى همّ سياسي ثقيل، لأن هذه المرحلة تضع جميع القوى أمام تحدياتها الوطنية، فالصفقات التي عقدت، والمساومات التي جرت، والمناورات التي شهد المراقبون الكثير من تفاصيلها في جوبا أو غيرها، من الواجب أن تتراجع بعد التفاهم حول الرؤى الأساسية في مسألة تقاسم السلطة والثروة. وانتقل جزء كبير من الزخم السياسي إلى الخرطوم بعد أن كانت جوبا رمانة الميزان في الكثير من التوازنات على مدار السنوات الماضية، ومن قبل سقوط البشير، وازدادت أهميتها مع اضطلاع دولة جنوب السودان بدور رئيسي في الوساطة بين القوى السودانية، ونجاحها في قطع شوط طويل في هذا المجال. زخم سياسي في مهمة تثبيت أركان سلطة مدنية للمستقبل في مهمة تثبيت أركان سلطة مدنية للمستقبل بدأت تتواتر قوافل قيادات فصائل مسلحة وتنظيمات سياسية على الخرطوم خلال الأيام الماضية، استعدادا لإنزال اتفاق جوبا على الأرض، الأمر الذي يتطلب التحلي بإرادة قوية، لأن مرحلة التنفيذ تستلزم مروحة سياسية واسعة، في ظل نصوص فضفاضة في وثيقة السلام، وتباين في الأولويات، وتمترس بعض القوى خلف حسابات قديمة. ويمكن أن تبني القوى السودانية بلدا حضاريا يقوم على المواطنة والمساواة والعدل والكرامة، ويمكن العودة إلى مرحلة الحروب الأهلية والمعارك والصدامات بشكل أكثر ضراوة لأخذ العبرة منها، لأن البيئة مهيأة، فهناك مؤمنون بجدوى وأهمية السلام وإجراء عملية جراحية مع ماض أليم، وهناك متشبثون بالحرب ولم يعرفوا غيرها على مدى عقود. ويتوقف كل طريق على تطبيق بنود السلام جيدا، والمرونة في تفسير النصوص الملتبسة، وتغليب مصالح الوطن على الطوائف والأفراد والحركات المسلحة، واستيعاب الدروس التي قدمتها تجارب دول أخرى، فالموزاييك الذي يتشكل منه السودان لا يتحمل المزيد من الفوران، وتربص قوى خارجية تخشى عواقب الاستقرار يمكن أن يقود إلى توسيع نطاق الأزمات. ويبقى الحل في تضييق الفجوات السياسية، لأن احتدام الخلافات من داخل بوتقة السلام أصعب وقد يؤدي إلى انفجار في قمة السلطة، ما يمثل خطورة كبيرة على القواعد، ويمنح فرصة للعبث بها، فكما يُعد الهدوء والأمن والاستقرار مطلبا مهما لقوى عديدة، هي أيضا تمثل خطرا على قوى أخرى تريد أن لا يبارح هذا البلد خندقه القاتم، وتحاول اختطاف الحكم بما يخدم أهدافها الإقليمية. ولعل إشارة الحكومة السودانية مؤخرا إلى وجود أيادٍ استخباراتية خارجية تعبث في شرق البلاد وتغذي صراعاته، كفيلة بالتعرف على مدى الخطورة التي يمثلها الاستقرار لجهات لم تسمها الحكومة. وإذا أضيفت إلى حالة تربص من جانب فلول البشير، تعرف القوى الوطنية إلى أي درجة تعيش البلاد على فوهة أزمات مزمنة، كلما جرى إطفاء إحداها في الغرب اندلعت أخرى في الشرق والجنوب، أو العكس. ومع ذلك لدى الحكومة الانتقالية ثقة في تجاوز كل هذه العقبات، لأن الشعب سئم الفوضى والابتزاز والمتاجرة بمعاناته، وعرف طريق التغيير من خلال الشارع، واستطاع أن يعدل الدفة في حالات كثيرة. كما لا تزال لدى الطبقة الشعبية القدرة على إصلاح المسار، مهما تبدلت ألاعيب الدوائر المشاركة في السلطة أو القريبة منها، فالطريق أصبح مفتوحا للحصول على تغيير حقيقي لا يقبل الفصال أو المساومة. ويبذل رئيس الحكومة الانتقالية عبدالله حمدوك جهودا مضنية في تثبيت أركان سلطة مدنية للمستقبل، مستندا على درجة مرتفعة من التكاتف الإقليمي والدولي لنزع فتيل التوترات والمضي قدما في بناء دولة تقوم على مبادئ المساواة والاستقرار. ويعول حمدوك على الدور السياسي، الذي ستقوم به بعثة الأمم المتحدة للدعم قريبا، والتي تعد بمثابة رقيب على القوى الرافضة للالتزام بوثيقة جوبا، أو تلك التي تسعى للالتفاف عليها بأي صورة، ويمكن أن تستخدم سلطاتها لكبح جماح من تسول لهم أنفسهم العبث أمنيا بمصير السودان. ولذلك فإن تخطي إشكاليات الشروع في إعادة هيكلة السلطة في السودان هو الذي يختبر إرادة السلام.
مشاركة :