إن أكثر الذين يتغنون بالكرامة والعزة وحرمة الخيانة وموالاة الكفار والمشركين هم الذين يحملون سلاح الدول الأجنبية المصنفة، في جميع قواميس إخوتهم ومعلميهم السلفيين، علمانية وكافرة، ويعيشون على هباتها وصدقاتها، ويقتلون بسلاحها، ويحتمون بمخابراتها وجيوشها، ويتطوعون لقمع معارضيها من أبناء جلدتهم، ولا يتورعون عن تخريب أوطانهم لحسابها، وهم يعلمون. والثابت، تاريخيا، أن هؤلاء المنافقين هم الذين سهلوا على الدول الأجنبية الطامعة الحاقدة أن تتسلل إلى بلادهم، وتستعبد شعوبهم، فتذلها وتُفقرها وتُمرضها، وتنهب خيراتها، وتملأ السجون والمقابر والمهاجر بأبنائها وبناتها. والغريب العجيب، إذا أردنا أن نتجنب الكلام بالألغاز والرموز، أن يكون أكثرُ الذين يجندهم الأميركي والأوروبي والروسي والإسرائيلي والتركي والإيراني والقطري، بسهولة وسرعة، وكلاء وأجراء وجواسيس هم المنتمون لأحزاب المعممين والملتحين المتشددين في الدين، والمبشرين بالخلافة الإسلامية، وهي منهم براء. والدليل على ذلك تجده واضحا فاضحا في ليبيا وسوريا والعراق واليمن وفلسطين. إذ يظلون يقتلون ويفجرون ويحرقون ويدمرون ويتنابزون بألقاب الخيانة والعمالة والاختلاس، ويُكفر بعضُهم بعضا، رافضين، بشمم وإباء، أي كلام عن التفاهم أو التراضي مع أشقائهم في الوطن الواحد حتى تأتيهم الأوامر من وراء الحدود. عند ذاك، فقط، يلقون سلاحهم، ويجلسون، بسرعة البرق، إلى طاولة الأخوة والمودة، ويعودون حبايب وقرايب، ويلعنون الشيطان الرجيم الذي أشعل بينهم العداوة، وهي حرام. خذوا هذا مثلا. فمنذ أن قررت أوروبا وأميركا وتركيا وقطر والإخوان المسلمون أن تُسقط نظام الراحل معمر القذافي في العام 2011، والشعبُ الليبيُ الطيب المتآنس المتجانس المتسامح لا يخرج من نفق ويقترب من ساعة الخلاص إلا لتدخله الميليشيات الإيمانية الإخوانية في نفق مظلم آخر، وتظل بواخرُ السلاح والمرتزقة ومخابرات الدول الكبرى والصغرى القريبة والبعيدة تتدفق على هذا الفريق وعلى أخيه الآخر الذي يقاتله، في نفس الوقت، من أجل إدامة القتل والحرق والهدم والخراب. وإلى ما قبل أسابيع ظلت الولايات المتحدة الأميركية تقف على التل، لا ترى، ولا تريد أن ترى ما يفعله بالشعب الليبي أردوغان، وتميم، والإخوان المسلمون، والمرتزقة السوريون الذين كنا نظن أنهم ثوار حقيقيون عقائديون لم يحملوا السلاح إلا اضطرارا لمقاتلة حاكم ظالم أغضب الله ورسوله، ونصرة لشعبهم السوري المظلوم المبتلى بآل الأسد والإيرانيين وميليشياتهم، وبالأتراك، والروس بعد ذلك، حتى تكشفت حقيقتهم أخيرا، وتبين أنهم كانوا يرتزقون بالدين، ويقاتلون بسلاح هذه الدولة (العلمانية الكافرة) وأموالها أو تلك، وأنهم بنادق رخيصة معروضة للبيع والإيجار، وهم يعلمون. وحين أفاقت أميركا، أخيرا،على بوتين متسللا بميليشياته وسلاحه إلى ليبيا، لينافس أردوغان على المواقع والمنافع وخافت من أن يجعل منها سوريا ثانية، تغيَّر موقفها، وتبدلت قناعاتها، وهزت عصاها الغليظة على من يهمه الأمر، فهُرع المتقاتلون جميعهم، إلى طاولات المفاهمات، ثم بدأت المخابرات التركية تلملم سلاحها ومرتزقتها وتُهمُّ بالرحيل، وفهِم تميم الرسالة وتوقف عن دفع الأتاوة لأردوغان. وفي تصريحاتٍ إعلامية جديدة للسفير الأميركي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، أعلن أن “التخلص من الميليشيات والمرتزقة والجماعات الإرهابية على رأس الأولويات في ليبيا”. حين أفاقت أميركا، أخيرا،على بوتين متسللا بميليشياته وسلاحه إلى ليبيا، لينافس أردوغان على المواقع والمنافع وخافت من أن يجعل منها سوريا ثانية، تغيَّر موقفها، وتبدلت قناعاتها، وهزت عصاها الغليظة على من يهمه الأمر وأضاف قائلا في حوار مع جريدة “أخبار اليوم” المصرية، “إن الاشتباكات الأخيرة عكست ضرورة العمل على إنشاء جيش واحد تحت سلطة مدنية”. وأعرب عن قلقه بشأن الوجود المتزايد للقوات الأجنبية التي يمكن أن تهدد التقدم الحالي نحو الحل السلمي فى ليبيا. والذي تريد هذه المقالة هنا أن تُذكر قراءَها به هو أن العنف في ليبيا، وكذلك في سوريا والعراق واليمن ولبنان وفلسطين، على امتداد سنوات الاقتتال الطويلة، لم يكن ليبيّا ولا سوريا ولا عراقيا ولا لبنانيا ولا يمنيا ولا فلسطينيا، أبدا، بل إنه كان وارداً من الخارج ودخيلا تطوع للقيام به نفرٌ ضال تسلط، بسلاحه وبقلة إنسانيته وموت ضميره، على الملايين من العزل الأبرياء. وفور أن توقفت الأيدي الخارجية الخبيثة عن صب زيتها على النار الموقدة في ليبيا، مثلا، من 2011 وحتى ما قبل أسابيع، توقف القتال، وسكتت الإذاعات والفضائيات، وبدأت نيران المعارك الدامية بالانطفاء، وخرج الشعب من سجنه الكبير. تقول أخبار الأحزاب الليبية المتقاتلة إنها توصلت “في ختام جلسات الحوار التي جمعتهما بمدينة بوزنيقة المغربية، إلى اتفاق شامل حول المعايير والآليات الشفافة والموضوعية لتولي المناصب السيادية” واستئناف تصدير النفط، وفتح الطرق والمعابر لتسهيل تنقل المواطنين بين أجزاء الوطن الواحد، بأمان. ويقال إنها توافقت على اختيار رئيس وزراء جديد مستقل، ومن طبقة التكنوقراط، مهندسا، أو طبيبا، ليقود حكومة انتقالية لثمانية عشر شهرا، تهيّئ البيئة الصالحة لإجراء انتخابات جديدة تعيد الوطن الليبي إلى أهله سالما ومعافى. والشيء نفسه سيحدث في غير ليبيا فقط حين تخرج العصا الغليظة الأجنبية، حين يقرر صاحبها النهاية. نتمنى أن تَصدُق النوايا، وينطلق قطار السلام من جديد، ويستعيد الشعب الليبي، أو أشقاؤه العراقي والسوري واليمني واللبناني، حياة الأمن والأمان، ويصبح زمام أمره بيده، وتبدأ مسيرة العدالة والإعمار والرخاء؟.
مشاركة :