نزلت تركيا بثقلها في الانتخابات “الرئاسية” لقبرص الشمالية محاولة توجيه بوصلتها لصالح حليفها القومي إرسين تتار الذي يعتبر فوزه تحصينا لأجنداتها وتكريسا للتوترات في المنطقة. وإلى جانب تأثيرها على المحادثات بين شطري الجزيرة، قد تؤثر نتيجة الانتخابات على المفاوضات بين أنقرة وأثينا في ما يتعلق بمطالب السيادة في شرق البحر المتوسط. نيقوسيا - توجه القبارصة الأتراك، الأحد، لانتخاب رئيس لدولتهم المعلنة من طرف واحد ولا تعترف بها سوى تركيا، في استحقاق يتنافس فيه مرشح تدعمه أنقرة و”الرئيس” المنتهية ولايته الذي ينتقد بشدة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وفي حال أخفق أي من المرشحين في الحصول على نسبة 50 في المئة من الأصوات، وهو السيناريو الأقرب، سيتواجه المتنافسان في جولة ثانية في 18 أكتوبر. وتخشى أنقرة إعادة انتخاب “الرئيس” الحالي مصطفى أكينجي لولاية جديدة، حيث اندفعت قبل أيام من الموعد الانتخابي لدعم منافسه “رئيس الوزراء” الحالي إرسين تتار ذو التوجه القومي. وترى تركيا في جارتها قبرص قطعة مهمة ضمن استراتيجيتها لتوسيع حدودها البحرية وتتابع عن كثب هذه الانتخابات التي دعي إليها 198 ألفا و867 ناخبا، إلا أن اعادة انتخاب أكينجي قد تعرقل هاته المساعي، إذ أنه من أشد المنتقدين لسياسات أردوغان ومن أبرز المدافعين عن التقارب مع اليونان وإعادة توحيد الجزيرة، بينما يدعم تتار، بتأييد من الرئيس التركي، حل الدولتين. وأعلن أردوغان الثلاثاء وإلى جانبه تتار، إعادة فتح ساحل مدينة فاروشا المقفرة التي هجرها سكانها القبارصة اليونانيون بعد الغزو، في خطوة اعتبرها أكينجي ومرشحون آخرون تدخلا تركيا في الانتخابات ودعما خارجيا للمرشح تتار. وأدى هذا الاعلان إلى انهيار التحالف الحاكم، حيث أعلن “وزير خارجية” هذا الكيان الذي لا تعترف به سوى أنقرة، قدرت أوزرساي، استقالته احتجاجا على قرار “رئيس الحكومة” القومي إعادة فتح فاروشا. وانسحب حزب الشعب الذي ينتمي إليه أوزرساي، وثالث أكبر الأحزاب في برلمان القبارصة الأتراك، من الائتلاف الحاكم ما يحرمه من الغالبية. ويُنظر إلى فاروشا باعتبارها ورقة مساومة في المواجهة المستمرة منذ عقود بين الشمال الخاضع للسيطرة التركية والجنوب الذي تسيطر عليه اليونان، حيث طالب الأخير بعودته إلى سكانه الأصليين، القبارصة اليونانيين. ودانت هذه الخطوة أيضا جمهورية قبرص والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة التي تراقب المنطقة العازلة بين شطري الجزيرة ويطلب أحد قراراتها نقل فاروشا إلى إدارة المنظمة الدولية. وقال ستيفان دوجاريك المتحدث باسم الأمم المتحدة في بيان إن “الأمين العام شدد على ضرورة تجنب أي إجراءات أحادية من شأنها أن تثير التوترات في الجزيرة وتقوض العودة إلى الحوار أو نجاح المحادثات مستقبليا”. وأدلى مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون السياسة الخارجية جوزيب بوريل بتصريح مماثل، قائلا إن الاتحاد الأوروبي “يشعر بقلق عميق” وإن التطورات في فاروشا “ستسبب توترات أكبر وقد تعقد الجهود الرامية إلى استئناف محادثات التسوية القبرصية”. وشدّد بوريل على “الطابع الملحّ لاستعادة الثقة وليس للتسبّب بمزيد من الانقسامات”. وذكّر بأنّ رؤساء الدول والحكومات الأعضاء في الاتّحاد تعهّدوا خلال قمّتهم الأخيرة التي عقدت يومي 1 و2 أكتوبر بدعم الجهود الرامية لاستئناف المفاوضات بين الجانبين القبرصيين برعاية الأمم المتحدة. وتم إغلاق فاروشا، التي تسمى “ماراس” باللغة التركية، وظلت غير مأهولة بالسكان منذ الحرب التي قسمت قبرص إلى شمال تسيطر عليه تركيا وجنوب تسيطر عليه اليونان، عندما غزت القوات التركية المنطقة بعد انقلاب يوناني لضم الجزيرة. وكانت فاروشا مدينة سياحية مزدهرة بفنادقها ومياهها الصافية وأمسياتها الصاخبة لكن سكانها رأوها تذبل أمام أنظارهم اليائسة وقد أُجبروا على الفرار إلى الجزء اليوناني في جنوب الجزيرة، في ظل جمهورية قبرص العضو في الاتحاد الأوروبي. وأعلنت تركيا في سبتمبر 2019 أنها ستعيد الحياة إلى فاروشا، لكن المشروع لم يتحقق، فيما اعتُبر الإعلان التركي استفزازا في الجزء الجنوبي من الجزيرة إذ دعت نيقوسيا إما إلى إعادة فاروشا وإما إلى وضعها تحت إدارة الأمم المتحدة. وكان أكينجي قال في تصريحات سابقة إن بلاده مستقلة في اتخاذ قرارها السياسي عن تركيا ونظامها بقيادة أردوغان. وجاء ذلك في تصريحات مثيرة للجدل أدلى بها لقناة يورونيوز، قيم خلالها علاقات بلاده مع أنقرة، ونقلها الموقع الإلكتروني لصحيفة “يني عقد” التركية. وفي تصريحاته، شدد على أن بلاده “مكتفية ذاتيا ولا تتبع وطنا أما”، في رفض واضح لإصرار النظام التركي الدائم على ترديد عبارة “الوطن الأم (في إشارة إلى تركيا) وصغيرها (في إشارة إل قبرص الشمالية)”. وطالب أكينجي النظام التركي بالتخلي عن ترديد هذه العبارة في سبيل تعزيز العلاقات بين الجانبين في المجالات كافة. وأشار يكتان تركيلماز الباحث في منتدى الدراسات الإقليمية “فوروم تراسريجيونال ستودن” في ألمانيا إلى أنّ العديد من القبارصة الأتراك شعروا “بأن الأمر مسّ شرفهم وهويتهم” بسبب ما يعتبرونه تدخلاً من أنقرة، وذلك برغم أنّ إعادة فتحها لا تتخطى كونها قرارا رمزيا. ونظمت هذه الانتخابات وسط توتر شهده ملف التنقيب عن موارد الطاقة في شرق المتوسط خاصة بين أنقرة وأثينا الحليفة الرئيسة لجمهورية قبرص التي تسيطر على ثلثي الجزيرة جنوباً والعضو في الاتحاد الأوروبي. وأُعلنت “جمهورية شمال قبرص التركية” (نحو 300 ألف نسمة) في الثلث الشمالي لهذه الجزيرة المتوسطية التي اجتاحتها تركيا عام 1974 رداً على انقلاب كان يسعى إلى توحيد قبرص واليونان. وقال أكينجي، وهو ديمقراطي اجتماعي يبلغ 72 عاماً يثير استياء أردوغان، عقب إدلائه بصوته إنّ “هذه الانتخابات محورية لمصيرنا”، مضيفاً أنّ صحة القبارصة الأتراك تثير قلقه في ظل الأزمة الوبائية القائمة ولكن أيضاً “الصحة السياسية” لجمهورية شمال قبرص. وندد بـ”التدخل التركي” في الانتخابات و”استخدام مسؤولين أتراك (في شمال قبرص) مكاتبهم كمكاتب انتخابية”. وتدعم تركيا القومي تتار (60 عاماً) الممسك بصلاحيات واسعة وفق قوانين شمال قبرص. وقال تتار بعد اقتراعه إنّ “جمهورية شمال قبرص التركية وشعبها يشكلان دولة… نستحق أن نعيش في ضوء سيادة متساوية”، ملمحاً في ذلك إلى دعمه لتقسيم الجزيرة بين دولتين نهائياً. وتعثرت مفاوضات توحيد الجزيرة في عدة مناسبات، خصوصا بسبب مسألة انسحاب نحو 30 ألف جندي تركي متواجدين في الشمال. وأكد الناشط كمال بيكالي مؤسس منظمة “لنوحد قبرص الآن” غير الحكومية، “تكمن القضية الرئيسية للانتخابات في الطريقة التي سنعرّف من خلالها علاقتنا بتركيا في ما بعد”، فيما أبدى عزت تولك، السبعيني المتقاعد، اعتقاده أنّ “هذه الانتخابات مهمة لأننا بصدد اختيار الرئيس الذي سيتفاوض مع القبارصة اليونانيين حول مستقبل قبرص”.
مشاركة :