من كان في حاجة إلى التأكّد من أهمّية النهج البناء الذي كان الملك محمّد السادس في طليعة من ابتدعوه في العالم العربي وحتّى في أفريقيا، يستطيع العودة إلى خطابه الأخير. كان الخطاب الذي ألقاه العاهل المغربي في افتتاح الدورة الخريفية الأخيرة لمجلس النوّاب المغربي واضحا كلّ الوضوح. كان واضحا وضوح الشمس في إعطاء فكرة عن أهمّية وجود رئيس دولة هو في الوقت ذاته أمير المؤمنين يعطي الأولوية لرفاه الشعب وكيفية مواجهة الأزمات التي يعاني منها البلد والشعب بدل الهروب منها إلى الخارج. يشكّل إعطاء الأولوية للشعب ورفاهه نقطة التحوّل التي طبعت المغرب. ماذا ينفع تحقيق كلّ الانتصارات في خارج المغرب في حال كان هناك تقصير على الصعيد الداخلي. هذا النهج المغربي الذي وضع أسسه محمّد السادس منذ العام 1999 بات مثلا يحتذى به عربيا وأفريقيا. إنّه نهج التصالح، مع الذات أوّلا، الذي تحوّل في المغرب إلى نوع من الاندماج بين الملك والشعب. هناك ملك يعرف كلّ صغيرة وكبيرة عن المغرب وكلّ منطقة وبلدة وقرية فيه وهناك شعب يعرف أن محمّد السادس هو الحارس الأمين للملكة وأنّ لا همّ آخر له سوى خدمته. من هذا المنطلق يمكن التذكير مرّة أخرى بأنّ الخطاب الأخير لمحمد السادس لم يتطرّق سوى إلى الوضع الداخلي المغربي وكيفية تمكين المواطن من عبور أزمة وباء كورونا بسلام وأمان. لم تغب هذه الأولوية، أولوية الاهتمام بالمواطن، عن كلّ ما قام به محمّد السادس منذ صعوده إلى العرش قبل 21 عاما جهد خلالها من أجل توثيق الرابط القائم بين المواطن المغربي والملك بما يصبّ في خدمة المملكة. لذلك لم يتردّد العاهل المغربي في افتتاح خطابه بالتشديد على خطورة وباء كورونا (كوفيد – 19). أعطى فكرة عن هذه الخطورة بإلقاء الخطاب من بعد. أراد بكل بساطة توعية المواطن العادي بأهمّية الوقاية قال في هذا المجال “نفتتح هذه السنة التشريعية، في ظروف استثنائية، وبصيغة مختلفة. فهي مليئة بالتحديات، بخاصة في ظل آثار الأزمة الصحية، التي يعرفها المغرب والعالم. كما أن هذه السنة، هي الأخيرة في الولاية التشريعية الحالية، حيث تتطلب منكم المزيد من الجهود، لاستكمال مهامكم في أحسن الظروف، واستحضار حصيلة عملكم، التي ستقدمونها للناخبين. وكما تعلمون، فإن هذه الأزمة ما زالت مستمرة، بانعكاساتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية. ويبقى الأهم، هو التحلي باليقظة والالتزام، للحفاظ على صحة المواطنين وسلامتهم، ومواصلة دعم القطاع الصحي، بموازاة العمل على تنشيط الاقتصاد، وتقوية الحماية الاجتماعية”. يمتلك ملك المغرب جرأة القول للمواطنين “إن هذه الأزمة أبانت عن مجموعة من الاختلالات ومظاهر العجز، إضافة إلى تأثيرها السلبي على الاقتصاد الوطني والتشغيل. لذا، أطلقنا خطة طموحة لإنعاش الاقتصاد، ومشروعا كبيرا لتعميم التغطية الاجتماعية، وأكدنا اعتماد مبادئ الحكامة الجيدة، وإصلاح مؤسسات القطاع العام. ومن شأن هذه المشاريع الكبرى أن تساهم في تجاوز آثار الأزمة، وتوفير الشروط الملائمة لتنزيل النموذج التنموي الذي نتطلع إليه”. لماذا لا خوف على المغرب؟ هذا يعود إلى التفكير المختلف والنظرة إلى الدور الذي يجب أن تلعبه أجهزة الدولة كي تكون في مستوى المسؤولية إرضاء للمواطن أوّلا. هذا ما يقوله محمد السادس هناك ملك يعرف تماما كيف تبنى الدول الحديثة وكيف تتطور هذه الدول. لذلك، يركّز محمّد السادس على الاقتصاد ويقول “إننا نضع خطة إنعاش الاقتصاد، في مقدمة أسبقيات هذه المرحلة، فهي تهدف لدعم القطاعات الإنتاجية، خاصة نسيج المقاولات الصغيرة والمتوسطة، والرفع من قدرتها على الاستثمار، وخلق فرص الشغل، والحفاظ على مصادر الدخل”. لا يقتصر الكلام في المغرب على الجرأة في عرض ما تعاني منه المملكة. الأهمّ من ذلك جدّية البحث عن حلول ومخارج. من هذا المنطلق تحدّث محمّد السادس عن “خطة إنعاش للاقتصاد ترتكز على صندوق الاستثمار الاستراتيجي، الذي دعونا لإحداثه. وقد قررنا أن نطلق عليه اسم صندوق محمد السادس للاستثمار”. أضاف “إننا نتطلع لأن يقوم بدور ريادي، في النهوض بالاستثمار، والرفع من قدرات الاقتصاد الوطني، من خلال دعم القطاعات الإنتاجية، وتمويل المشاريع الكبرى ومواكبتها، في إطار شراكات بين القطاعين العام والخاص. ولتوفير الظروف الملائمة لقيام هذا الصندوق بمهامه، على الوجه الأمثل، فقد وجهنا بأن يتم تخويله الشخصية المعنوية، وتمكينه من إعداد التدابير الملائمة، وأن يكون نموذجا من حيث الحكامة والنجاعة والشفافية. كما وجهنا بأن ترصد له 15 مليار درهم، من ميزانية الدولة، بما يشكل حافزا للشركاء المغاربة والدوليين، لمواكبة تدخلاته، والمساهمة في المشاريع الاستثمارية، دعما لخطة الإنعاش، وتوسيع أثرها الاقتصادي والاجتماعي والبيئي”. يدرك محمّد السادس طبيعة التحدّيات التي تواجه المغرب. لعلّ أكثر ما يدركه قيمة الإنسان المغربي. لم يغب أي خطاب من خطاباته عن التركيز على المواطن وعلى العائلة المغربية. يعمل بكل بساطة على توفير التوجيهات التي تجعل المواطن يستوعب خطورة كوفيد – 19 من جهة والتأكيد أن هناك من يهتمّ فعلا بإيجاد مخارج من الأزمة القائمة من جهة أخرى. نعم، هناك أزمة. الحل لا يكون بالتفرّج عليها. يكون الحل باللجوء إلى خطوات عملية تؤدي في نهاية المطاف إلى تجاوزها. لا يزال رهان محمّد السادس على المواطن المغربي. الملك يعرف تماما قدرة هذا المواطن على الصمود والابتكار. يعرف تماما ما حققه المغاربة داخل المملكة وخارجها. هناك مرحلة صعبة لا يمكن إلّا أن تمر. ما سيساعد المغرب في تجاوزها عاجلا أم آجلا، في انتظار اكتشاف اللقاح الذي يقاوم كوفيد – 19 هو تلك العلاقة المميّزة بين المواطن والملك. مثل هذه العلاقة تخلق الثقة قبل أيّ شيء آخر. مثل هذه العلاقة تشكل حجر الزاوية في السير بالمغرب نحو أن يصبح دولة حديثة بكلّ معنى الكلمة برعاية ملك اختار منذ اليوم الأول أن يجعل كل مواطن مغربي يفتخر ببلده. أكثر من ذلك، يريد من كلّ مغربي أن يشعر تلقائيا بأنّ هناك رعاية له. هذا سرّ المغرب الحديث الذي تغيّر كثيرا في العقدين الماضيين نحو مغرب أكثر إنسانية من كلّ النواحي، مغرب يبحث عن الحدّ من البطالة وتأمين الضمان الصحي للمواطن، بغض النظر عن وضعه الاجتماعي، بحلول السنة 2022. لماذا لا خوف على المغرب؟ هذا يعود إلى سبب في غاية البساطة يتمثل في التفكير المختلف والنظرة إلى الدور الذي يجب أن تلعبه أجهزة الدولة كي تكون في مستوى المسؤولية إرضاء للمواطن أوّلا. هذا ما يقوله محمد السادس الذي أنهى خطابه بمقاطع عدّة من بينها مقطع لافت جاء فيه “أن نجاح خطة الإنعاش الاقتصادي، والتأسيس لعقد اجتماعي جديد، يقتضي تغييرا حقيقيا في العقليات، وفي مستوى أداء المؤسسات العمومية. ولهذه الغاية، ندعو الحكومة للقيام بمراجعة عميقة لمعايير ومساطر (قواعد) التعيين، في المناصب العليا، بما يحفز الكفاءات الوطنية، على الانخراط في الوظيفة العمومية، وجعلها أكثر جاذبية”.
مشاركة :