لن يستطيع المواطن الفلسطيني والعربي تقدير حجم الضرر الذي ألحقته إيران وشعاراتها ووكلاؤها وحلفاؤها، أبطال الثمن الباهظ الذي يهددون به إسرائيل، إلا بمتابعة ما يكتبه الإسرائيليون، لمعرفة كيف يفكرون، وماذا يريدون، وكيف يتحدثون وهم منتشون بالانتصار تلو الانتصار الذي يحققونه لا على الجيل الحالي من الفلسطينيين وأشقائهم العرب الآخرين، وحسب، بل أيضا على القضية الفلسطينية برمتها، وعلى المنطقة كلها. فقد تحولت فلسطين، بالجهاد الإيراني وبفيلق القدس والحرس الثوري والميليشيات العراقية واللبنانية واليمنية والسورية، إلى ملف مركون على رفوف الحكومات الدولية والعربية والإسلامية، بعد أن شغل الإيرانيون والأتراك والإسرائيليون والأميركيون والأوروبيون والقطريون والإخوان المسلمون دول المنطقة وشعوبها بالحروب والاحتلالات والغزوات والانتكاسات، وأجبروها على الانشغال بهمومها الوطنية، وإهمال أو تأجيل الواجبات القومية والإنسانية، والاستعانة بما كان محرما لديها من قبل، للدفاع عن وجودها، وتعزيز قدرتها على صيانة كرامة شعوبها وأمنها ورزقها. فالأوساط السياسية في إسرائيل منشغلة هذه الأيام بالتساؤل عن الدول العربية التالية التي ستلتحق بمسيرة السلام التي أنعشها الاتفاقان الأخيران، الإماراتي والبحريني، بعد مصر والأردن. ويبدو أن هناك اقتناعا لدى عموم الإسرائيليين السياسيين وغير السياسيين بأن تكون سلطنة عُمان والكويت والمغرب وتونس والسودان هي التالية، بسهولة، وبلا جهد جهيد. إلا أن الجدل الساخن المحتدم بينهم هو هل الأهم هو انضمام السعودية أم انضمام العراق. ففريق منهم يضع الاتفاق المحتمل مع المملكة العربية السعودية على رأس قائمة أحلامه، ويعتبره لحظة القمة، ويصفه بأنه “الكأس المقدس”، ويتمنى تحقيقه، بأسرع ما يمكن، وبأي ثمن. وينطلق في توقعاته تلك من حقيقة أن السعودية هي زعيمة الدول السنية في العالم، باعتبارها أرض الحرمين، وبفعل قوتها الاقتصادية، ستمنح السلام بين العرب وإسرائيل قوة وديمومة، وقد تغري دولا أخرى ما زالت مترددة. لكن محللين سياسيين إسرائيليين كبارا آخرين، ومنهم عيدان بارير، محرر صحيفة يديعوت أحرنوت، يخالفون هذا الرأي، ويشكّون في أن تكون السعودية هي “مغير اللعبة”، ويميلون بشدة إلى اعتبار العراق هو بيضة القبان، دون منازع. ويبررون ذلك بالقول، نعم، إن السعودية هي الشريك الأكبر للأميركيين في الشرق الأوسط، والدولة الأكبر والأهم في العالمين العربي والإسلامي، ولكن الدور الحاسم في عملية صياغة شكل المنطقة، وإعادة هيكلتها، للعقود القادمة، سيكون من نصيب العراق. فهم يعتبرونه ولاية أميركية متقدمة في المنطقة، رغم ما يعكر صفو العلاقة الأميركية العراقية، حاليا، من مزعجات ومعرقلات لم ولن تمس العمق الواقعي الحقيقي الذي يُبقي أميركا، برغم كل شيء، صاحبة القرار الأول فيه. بعبارة أخرى، إن العراق ليس حليفا لأميركا ولا صديقا لها، مثل السعودية، قد يختلف معها ذات يوم إذا تعارضت صداقتها مع مصالحه الوطنية العليا، بل هو ولاية أميركية خالصة، وكيان صنعته أميركا بيديها، وتشكله الآن على طريقتها، مهما قيل غير ذلك. الكاظمي بدأ يدير ظهره لجماعة إيران، رويدا رويدا الكاظمي بدأ يدير ظهره لجماعة إيران، رويدا رويدا فقد استثمرت في هذا الشريك الاستراتيجي الكبير أكواما من المال، وأطنانا من المعدات والأسلحة المتقدمة المتطورة، وآلافا من ضباطها وجنودها، قتلى أو مرضى أو مشوهين، ولن تخرج منه وتدعه لغيرها، مهما كلفها من ثمن. ورغم ما يبدو من نفوذ إيراني قوي، حاليا، في العراق إلا أن الحقيقة هي أنه في حالة انحسار وضعف وضيق. فالنظام الإيراني يحرص، من تحت الطاولة، على إرضاء أميركا وإسرائيل، خلافا لخطاب مسؤوليها ووكلائها العراقيين واللبنانيين. ولولا ذلك لما تجرأ أولادها المطيعون في حزب الله ومنظمة أمل على تبني ترسيم الحدود اللبنانية مع إسرائيل، وهو الذي يعتبر، بشكل أو بآخر، اعترافا ضمنيا بها وبحدودها. ثم إن إيران هي التي فرضت تعيين رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي، رغم أنها كانت عارفة بولائه الأميركي، ظنا منها بأنه سيوازن، بشكل مريح، بين نفوذها والنفوذ الأميركي، ويحول دون الاصطدام الجدي المباشر بينهما في العراق. وهذا ما دعاها إلى أن تأمر وكلاءها العراقيين المتشددين في الأحزاب والميليشيات والبرلمان بدعم ترشيحه لرئاسة الوزراء، رغم أنهم كانوا معارضين لترشيحه بقوة وحزم، قبل ذلك. ويعتقد الإسرائيليون بأن الكاظمي أكثر جرأة من عادل عبدالمهدي وحيدر العبادي، حيث بدأ يدير ظهره لجماعة إيران، رويدا رويدا. ويبدو أنه ينتهج سياسة الابتعاد المبرمج والمدروس والحذر عن إيران، والتقارب مع الولايات المتحدة وحليفاتها الدول العربية، رغم الانزعاج الإيراني الذي ظهر بأشكال مختلفة. وفي نظر الكاتب الإسرائيلي عيدان بارير أن الواقع المضطرب الحالي في العراق يؤكد أنه الأكثر ملاءمة لإتمام المسلسل الخاص بالاعتراف بإسرائيل. والأمر البارز هو أن الكاظمي، بعد زيارته الناجحة لواشنطن قبل حوالي شهر، توجه مباشرة لحضور لقاء ثلاثي في عمان مع العاهل الأردني والرئيس المصري تمّ الإعلان في ختامه عن تشكيل تحالف “المشرق الجديد”، وهو ما أزعج إيران، وأثار عليه غضب الأحزاب الموالية لها. وإذا ما حدث وفوجئ العرب بانضمام العراق إلى مسيرة التطبيع فسيختطف من السعودية مكانتها الأولى في العالم العربي، وسيصبح الحصان الجاذب الكبير الجديد لأكبر شركات الاستثمار العالمية، بفعل ما لديه من ثروات، وموقع جغرافي، وشعب عامل، بالإضافة إلى ما سيضيفه الوجود الأميركي الفاعل فيه، وما سيحصل عليه من مساعدات أميركية متزايدة لن تكون مقتصرة على الجانب العسكري، كما يظن كثيرون.
مشاركة :