مرّت أمس الذكرى الـ30 على يوم الثالث عشر من تشرين الأوّل – أكتوبر 1990، وهي ذكرى سقوط لبنان كلّه تحت الوصاية السورية بفضل رجل هو ميشال عون رئيس الجمهورية في لبنان حاليا. يومذاك، دخل الجيش السوري قصر بعبدا ووزارة الدفاع اللبنانية في اليرزة القريبة من القصر وذلك للمرّة الأولى منذ الاستقلال في العام 1943. أمّا ميشال عون نفسه، فقد لجأ إلى مقر السفارة الفرنسية الذي لم يكن يبعد كثيرا عن القصر الرئاسي. بقي هناك إلى أن وجدت فرنسا ترتيبا لاستقباله فيها طوال خمسة عشر عاما. لم يعد إلى لبنان إلّا بعد اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005، الحدث الذي أدّى إلى خروج الجيش السوري… تمهيدا لانتقال البلد إلى الوصاية الإيرانية. توّجت هذه الوصاية التي حلّت مكان الوصاية السورية بانتخاب “مرشّح حزب الله” رئيسا للجمهورية. لم يكن هذا المرشّح سوى ميشال عون نفسه الذي أظهر التزاما ليس بعده التزام في تغطية سلاح الحزب، أي سلاح لواء في “الحرس الثوري” الإيراني عناصره لبنانية. كانت فترة عشر سنوات، أي منذ توقيع وثيقة مار مخايل مع “حزب الله”، كافية لـ”حزب الله” كي يكتشف أن ليس من غطاء لسلاحه أفضل من ذلك الذي يوفّره حزب مسيحي كبير. أخذ الحزب المسيحي (التيّار الوطني الحرّ) على عاتقه هذه التغطية لسلاح ميليشياوي ومذهبي في خدمة إيران ومشروعها التوسّعي في المنطقة. في ثلاثين عاما، تغيّر الكثير ولم يتغيّر شيء. أهمّ ما تغيّر منذ خروج ميشال عون من قصر بعبدا في المرّة الأولى أنّ محاولة جرت لإنقاذ لبنان عن طريق إعادة إعمار بيروت. استعاد البلد حياته ووجد لنفسه مكانا على خارطة المنطقة في انتظار يوم أفضل كان يأمل رفيق الحريري بمجيئه. ما بدأ بإعمار بيروت كان تمهيدا لإعادة إعمار لبنان وربطه ببعضه البعض كي يكون مهيّأ لدور إقليمي أكبر في حال عمّ السلام المنطقة. ما لم يتغيّر بين 1990 و2020 هو العجز اللبناني عن استيعاب ما يدور في المنطقة وكيفية التعاطي مع الأحداث الإقليمية. كرّر التاريخ نفسه للأسف الشديد مرّتين. في المرتين، كان ميشال عون في قصر بعبدا. المرّة الأولى بين خريف 1988 وخريف 1990 بصفة كونه رئيسا لحكومة مؤقتة لا مهمّة لها سوى تأمين انتخاب رئيس للجمهورية خلفا للرئيس أمين الجميّل، والثانية بعد الواحد والثلاثين من تشرين الاوّل – أكتوبر 2016. في ذلك اليوم المشؤوم انتخب مجلس النوّاب اللبناني مرشّح “حزب الله” رئيسا للجمهورية. بدأ عمليا عهد “حزب الله” الذي شهد إفلاس لبنان ماليا في ظلّ انهيار النظام المصرفي فيه وتفجير ميناء بيروت في الرابع من آب – أغسطس 2020 مع ما يعنيه ذلك من إلغاء كامل لأيّ دور مستقبلي لبيروت، المدينة الثكلى، التي تتحوّل شيئا فشيئا إلى ضاحية فقيرة من ضواحي طهران. في المرتين اللتين كان فيهما ميشال عون في قصر بعبدا، فشل بوضوح ليس بعده وضوح في أخذ البلد إلى شاطئ الأمان. أخذه في المرّة الأولى إلى الوصاية السورية وفي المرّة الثانية إلى ما يمكن وصفه بحال ميؤوس منها يظلّ الفشل في التعاطي مع المبادرة الفرنسية أبرز دليل عليها. لعلّ أخطر ما يواجهه لبنان حاليا هو ذلك الفراغ السياسي الذي ملأه “الثنائي الشيعي” بجدارة عبر الذهاب إلى مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل. كشف هذا الثنائي المؤلّف من “حزب الله” و”أمل” أنّ في استطاعته تغطية مثل هذه المفاوضات، بل الوحيد القادر على ذلك. مثل هذه الخطوة كبيرة بكلّ المقاييس، خصوصا أنهّا تأتي في ظلّ غياب مسيحي عن القرار السياسي من جهة وغياب سنّي من جهة أخرى. يعود الغياب السنّي إلى عدم وجود حكومة ورئيس لمجلس الوزراء يفترض به وبأعضاء حكومته لعب الدور الذي يحدده الدستور في مثل هذه الحالات. هذه هي حال لبنان المفلس على كلّ صعيد. في أساس الإفلاس غياب الرؤية السياسية لدى رئيس الجمهورية. يمنعه هذا الغياب من تقدير معنى تخلّيه عن الدور الذي كان مفترضا أن يلعبه في مرحلة ما بعد انتخابه رئيسا للجمهورية. بدل لعب دور بيضة القبّان، صرف ميشال عون كلّ جهده من أجل تمهيد الطريق أمام وصول صهره إلى موقع رئيس الجمهورية في السنة 2022. يكشف مثل هذا التصوّر أنّ المنطقة كلّها تغيّرت بما في ذلك الدور الإيراني المتراجع الذي لن يتمكن من فرض جبران باسيل رئيسا للجمهورية في 2022… هذا إذا بقي شيء من لبنان، بما في ذلك رئاسة الجمهورية. صحيح أنّ إيران دفعت في اتجاه المفاوضات اللبنانية – الإسرائيلية، من منطلق أنّها تريد تقديم أوراق اعتمادها إلى واشنطن، خصوصا أنّ رهانها يتمثّل في فوز جو بايدن على دونالد ترامب، لكنّ الصحيح أيضا أن إيران ما كانت تقدم على مثل هذه الخطوة لو كانت قويّة فعلا. هناك تراجع إيراني على كلّ الجبهات، بما في ذلك لبنان الذي ليست أمامه سوى المبادرة الفرنسية التي تعني تشكيل حكومة اختصاصيين ذات مهمّة محدّدة بغطاء سياسي يؤمّنه سعد الحريري. ليس مستغربا ألّا يكون في قصر بعبدا من يستطيع قراءة ما يدور في المنطقة. ففي العام 1990، راهن ميشال عون على صدّام حسين وخاض حربا مع “القوات اللبنانية” بدبابات جاءت من العراق وتوزعت بينه وبين “القوات”. لم يعرف وقتذاك أن العراق الذي خاض حربا طالت ثماني سنوات مع إيران صار بلدا مفلسا ليس لديه ما يساعد به لبنان. كان الرهان على العراق خطأ قاتلا في 1990. عرف حافظ الأسد كيف يستفيد منه إلى أبعد حدود، خصوصا بعد المغامرة المجنونة لصدّام حسين في الكويت. جعل ميشال عون لبنان يدفع غاليا ثمن تلك المغامرة العراقية. كم سيكون الثمن الذي سيدفعه البلد في 2020 بسبب القراءة الخاطئة للموازين الدولية والإقليمية؟ الخوف في أيامنا هذه أن لا يكون في لبنان من تعلّم من تجارب الماضي، خصوصا أن لبنان في 2020 معزول عربيا ودوليا، باستثناء وجود المبادرة الفرنسية. وهذا ما يفسّر إلى حد كبير هرب “الثنائي الشيعي” إلى المفاوضات مع إسرائيل خشية ما يمكن أن يترتب على “الثنائي” من تراجع لمكاسبه السياسية في حال تشكيل حكومة لبنانية خارج سيطرة “حزب الله” والأحزاب الأخرى التي أخذت لبنان إلى الخراب…
مشاركة :