كان هربرت ريموند مكماستر مستشاراً للأمن القومي في عهد دونالد ترامب قبل أن يطرده الرئيس من منصبه. يناقش مكماستر في هذه المقابلة سلوك بوتين المجرّد من المبادئ، ومستقبل حلف الناتو، وحرب الخنادق في البيت الأبيض، والسبب الذي يجعله مقتنعاً بضرورة أن تلغي ألمانيا مشروع خط أنابيب الغاز مع روسيا. عمل مستشار الأمن القومي هربرت ريموند مكماستر لفترة طويلة لمصلحة الجيش الأميركي، وحين سقط الستار الحديدي في أوروبا، كان موجوداً في بافاريا كضابط في فوج الفرسان المدرّع الذي يقوم بدوريات على الحدود بين ألمانيا الغربية والشرقية. في فبراير 1991، قاد معركة خلال حرب الخليج في الكويت، حيث تدمّرت 28 دبابة عراقية خلال دقائق، وفي فبراير 2017، عيّنه ترامب كمستشار للأمن القومي، لكن نشأ خلاف بين مكماستر والرئيس سريعاً بعد دخوله إلى البيت الأبيض. دعا مكماستر الحكومة الأميركية إلى دعم شركائها الأوروبيين، وأوصى الرئيس بعدم الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ، وهذا ما جعله مستهدفاً من كبير مستشاري ترامب، ستيف بانون، الذي أراد من الرئيس أن يتخذ مساراً شعبوياً. أطلق الموقع الإلكتروني اليميني "بريتبارت"، حيث عمل بانون لسنوات حملة قوية لتشويه صورة مكماستر، وحين عارض هذا الأخير ترامب علناً في المرحلة اللاحقة، وأعلن أن الكرملين تدخّل في الانتخابات الأميركية الرئاسية لعام 2016 "بلا أدنى شك"، لم يمرّ وقت طويل قبل أن يطرده الرئيس. اليوم، أصبح مكماستر (58 عاماً) باحثاً في جامعة ستانفورد بكاليفورنيا، ونشرت دار هاربر كولينز كتابه الجديد Battlegrounds: The Fight to Defend the Free World (ساحات القتال: معركة للدفاع عن العالم الحرّ) في سبتمبر الماضي. • كنتَ شاهداً على سقوط الستار الحديدي مباشرةً في نوفمبر 1989 بصفتك نقيباً في فوج الفرسان المدرّع الثاني المتمركز على حدود ألمانيا الغربية وصولاً إلى ألمانيا الشرقية. كان ذلك الحدث من أعظم انتصارات السياسة الخارجية الأميركية في القرن العشرين. لكن بدأت الصين اليوم تتحول إلى قوة عالمية جديدة، وتحاول روسيا بكل وضوح التلاعب بالانتخابات الرئاسية الأميركية مجدداً. كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ - لقد فزنا في الحرب الباردة لكن منحنا ذلك الانتصار درجة مفرطة من التفاؤل والاكتفاء. في الولايات المتحدة وأوروبا، كنا نظن أن المجتمعات الحرّة والديمقراطية ستنتشر أخيراً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وافترضنا أن حقبة المنافسة بين القوى العظمى انتهت، وأن شعوب العالم ستبدأ التركيز على معالجة المشاكل العالمية الكبرى معاً من الآن فصاعدا، وكذلك طمأننا الانتصار في حرب الخليج عام 1991 إلى استحالة هزم الجيش الأميركي وجيوش حلف الناتو، نظراً لقوتنا وتفوقنا التقني، لكن سرعان ما تبين أن هذه الفرضيات كلها خاطئة، ما أدى إلى خيبة أمل مريرة. • إلى أي درجة يمكن اعتبارها خاطئة؟ - أثبت هجوم 11 سبتمبر 2001 أن سكين جيب يكفي لخطف طائرة وقتل 3 آلاف شخص، وبدأت المنافسة بين القوى العالمية تعود إلى الواجهة أيضاً: تُهدد الصين الدول المجاورة لها في بحر الصين الجنوبي وتحاول قمع حركة الحرية في هونغ كونغ. وتحلم روسيا من جهتها باسترجاع مكانتها كدولة كبرى مجدداً، وقد اتضحت نواياها عبر ضم شبه جزيرة القرم وغزو شرق أوكرانيا وتحركات أخرى، وكان رد الأوروبيين على هذه الأحداث بطيئا جدا، وأخطأت الولايات المتحدة بدورها حين سحبت قواتها العسكرية من أوروبا تزامنا مع زيادة عدائية بوتين. الأنظمة الاستبدادية الرجعية • ما أكبر تهديد يواجهه العالم الحرّ في الوقت الراهن؟ روسيا أم الصين أم دونالد ترامب؟ - إنها الأنظمة الاستبدادية الرجعية في روسيا والصين طبعاً! لكن ربما يتعلق تهديد أكثر خطورة بفقدان الثقة بالمؤسسات والعمليات الديمقراطية، وهذه المشكلة كانت قائمة قبل عهد ترامب، ويعكس الرئيس الحالي الانقسامات في مجتمعنا أكثر مما يضخمها، ينجم فقدان الثقة جزئياً عن عولمة خارجة عن السيطرة تركت عددا كبيرا من العمال الأميركيين بلا عمل، شعر الكثيرون بأن المؤسسات السياسية تخلت عنهم، ثم بدأت الأزمة المالية التي جعلت الوضع السيئ يتفاقم بدرجة إضافية، وشجعت الأزمة المالية الصين أيضا على الاستفادة من ضعف نظامنا الاقتصادي المبني على السوق الحر وزيادة عدائيتها على الساحة العالمية. الثقة وترامب • برأي عدد كبير من شركاء الولايات المتحدة، لا تطرح الصين أو روسيا أكبر تهديد بل الرجل الذي يشغل البيت الأبيض اليوم، وبحسب استطلاع نُشِر منذ بضعة أشهر، تبين أن الألمان يثقون بفلاديمير بوتين والحاكم الصيني شي جين بينغ أكثر من ترامب، كيف تفسّر هذه النتيجة الواقعية؟ - أظن أن هذا التوجه يعكس مستوى لافتا من كره الذات والتكافؤ الأخلاقي، وهذه هي لعنة الغرب في هذه الأيام. نعيش جميعاً في بلدان ديمقراطية ونستفيد من حكم القانون وحرية الصحافة واقتصاد السوق الذي يكافئ المبادرات، لكننا نغفل في الوقت نفسه عن مستوى قمع حرية الإنسان في البلدان الاستبدادية. • لم تكن تحمل أي أوهام حول شخصية الرئيس حين استلمت منصبك في البيت الأبيض، فلماذا قررت العمل لمصلحة هذا الرجل في مطلق الأحوال إذاً؟ - كنت مقتنعاً بأن واجبي يفرض عليّ أن أخدم أي رئيس مُنتخَب. منذ انضمامي إلى الجيش، لطالما اعتبرتُ الجنرال جورج مارشال قدوتي، كان مهندس الانتصار الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية، ثم خطط لإعادة بناء أوروبا، ولم يشارك يوما في أي انتخابات على مر حياته وأنا قمتُ بالمثل. أنا لا أؤيد أي حزب ولا أريد أن أنجرّ إلى حرب الخنادق السياسية، لكن في العراق وأفغانستان، اضطررتُ بصفتي جندياً لتنفيذ استراتيجيات لم أعتبرها منطقية جداً، كانت ترتكز على بعض الأوهام في واشنطن، لكنها بقيت بعيدة عن واقع الحرب ميدانيا، لهذا السبب أردتُ أن أقتنص الفرصة لتصحيح الشوائب الاستراتيجية التي تكلّمنا عنها سابقا، أردتُ أن ينجح الرئيس في اتخاذ قراراته بناء على أفضل تحليلات وخبرات ممكنة، لكنني توقعت أيضا أن يكون العمل وسط بيئة حزبية سامة بالغ الصعوبة. • هل كنت تعرف أن عملك في هذا المنصب يوشك على الانتهاء حين أطلق الموقع الإلكتروني اليميني "بريتبارت" حملة ضدك، وبدأ التداول بهاشتاغ #اطردوا_مكماستر على الإنترنت؟ - كانت هذه الأحداث تهدف إلى جعل عملي مستحيلاً، ويقف وراء هذه الحملة أشخاص لا يهتمون بخدمة الرئيس بل لديهم أجندتهم الخاصة، لقد اخترتُ أن أتجاهل ما حصل وأركّز على وظيفتي. • هل تعني بكلامك ستيف بانون الذي كان حينها كبير الاستراتيجيين لدى ترامب؟ - أتكلم عن مجموعة أشخاص اعتبروا فاعلية مقاربتنا عائقاً أمام أجندتهم الضيقة. • أراد بانون وآخرون أن يتخذ الرئيس مساراً انعزاليا، وجاء بعدك جون بولتون، وهو أشرس مسؤول مؤيد لاستعمال القوة في السياسة الخارجية داخل معسكر الحزب الجمهوري. - ربما يشمل هذا التناقض عنصراً من العدالة الشعرية. خطورة بوتين • في كتابك، تَصِف في المقام الأول روسيا كمصدر تهديد على العالم الحرّ، ما خطورة بوتين؟ - يبدو وكأن بوتين لا يلتزم بمعاييرنا الأخلاقية، وتثبت أدلة دامغة مثلاً أن الروس أسقطوا طائرة ركاب فوق أوكرانيا عام 2014، ثم حاول بوتين أن يقتل ضابط الاستخبارات الروسي السابق سيرغي سكريبال بغاز الأعصاب، فعرّض بذلك حياة آلاف المواطنين البريطانيين للخطر، وفي الفترة الأخيرة حاول تسميم معارِض النظام ألكسي نافالني، وينكر بوتين هذه الاتهامات كلها، ويعتبر الغرب ضعيفا، ويظن أنه يستطيع الإفلات من العقاب. • يتذكر عدد كبير من الألمان نسخة أخرى من بوتين، الذي ألقى خطاباً بلغة ألمانية فصيحة أمام البرلمان الاتحادي الألماني في نهاية سبتمبر 2001، بعد بضعة أيام على الهجوم الذي استهدف مركز التجارة العالمي، وبوتين الذي خاض حملته على أساس التعايش السلمي بين الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا، هل كان رفض يد بوتين الممدودة موقفا خاطئا؟ - خلال التسعينيات، دفع الأميركيون والأوروبيون المليارات إلى روسيا لمساعدة البلد على الانتقال إلى اقتصاد السوق، لكن فشلت تلك الجهود بسبب شبكة المحسوبيات الإجرامية المنتشرة في أنحاء روسيا، وهي التي أسقطت بوريس يلتسين في البداية، ثم سهّلت تنامي نفوذ بوتين لاحقاً. خلال خطابٍ عام 2000، أعلن بوتين شخصيا أنه يريد أن يسترجع بلده عظمته الوطنية القديمة، يجب ألا نخطئ ونُحمّل أنفسنا مسؤولية أفظع الأفعال التي يرتكبها أعداؤنا، هذا ما أسمّيه "النرجسية الاستراتيجية" في كتابي. • يقول عدد كبير من الروس إن الغرب لم يتنبه كثيراً للحساسيات الاستراتيجية الروسية بعد انتهاء الحرب الباردة، أراد جورج بوش الابن أن تنضم جورجيا إلى حلف الناتو عام 2008، واعتبر باراك أوباما روسيا "قوة إقليمية". - هذا صحيح. ربما أزعجنا بوتين، لكن هل هذا السبب كافٍ كي يطلق الآن حملة لإضعاف أنظمتنا الديمقراطية؟ وهل هو مبرِّر كي يقمع بوتين شعبه ويعدّل الدستور الروسي ليبقى قيصر البلاد حتى عام 2036؟ هذا الوضع ليس منطقياً بنظري. فيما يخص توسيع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، هل كان يجب أن نتصدى للدول التي استرجعت حريتها فنقول لها "نحن آسفون جداً، لكن لا يحق لكم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لأن روسيا لا ترغب في ذلك"؟ لا. لكن لم تهتم الولايات المتحدة بسيادة كوبا أيضاً حين دعمت محاولة الانقلاب في "خليج الخنازير" عام 1961، وفرضت حصاراً بحرياً على الجزيرة خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. هل تتكلم عن سيادة بلدٍ لا يعطي أي قيمة لحقوق الإنسان؟ أنا آسف، لكني لا أؤمن بهذا التكافؤ الأخلاقي. • ثمة إجماع في الأوساط الحزبية بواشنطن على ضرورة أن توقف الحكومة الألمانية مشروع خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" مع روسيا، هل توافق على ذلك؟ - نعم طبعاً. لماذا يريد حلفاؤنا الألمان أن يعطوا بوتين، من بين جميع الناس، القدرة على فرض نفوذه على الاقتصاد وإمدادات الطاقة في بلدهم؟ يرتكز مشروع "نورد ستريم 2" على صفقة فاسدة عقدها مستشار ألماني سابق يشغل منصباً في مجلس إدارة شركة روسية مملوكة للدولة، ساهمت الولايات المتحدة بعد حقبة الحرب في بناء نظام مَنَح أوروبا، لاسيما ألمانيا، منافع كبرى. من المؤسف بنظري ألا يبذل الألمان جهوداً إضافية للتصدي للقيصر الروسي الذي يُضعِف أنظمتنا الديمقراطية وتحالفنا بكل عدائية. • يَعِد منافِس ترامب، جو بايدن، باسترجاع ثقة شركاء البلد في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية. لكن هل هذا ممكن أصلاً؟ حرص السفير الأميركي في ألمانيا ريتشارد غرينيل على تسهيل انسحاب نحو 12 ألف جندي أميركي من ألمانيا. - الانسحاب العسكري قرار خاطئ حتما، لكننا رأينا هذه التقلبات في العلاقات الأميركية الألمانية في مناسبات متعددة أيضا، تتراوح مواقف الألمان دوما بين رفض الوجود العسكري الأميركي والخوف الهوسي من أن يتركهم الأميركيون في وضع صعب، هكذا كان الوضع أصلا خلال الحرب الباردة، لكن هل تعرفون من سيعيد توحيد صفوفنا؟ فلاديمير بوتين! أظن أننا نستطيع الاتكال عليه في هذا الصدد لأن الجميع سيدركون في نهاية المطاف إلى أي حدّ يريد تقسيمنا. • اقترب ترامب على ما يبدو من إعلان الانسحاب الأميركي من حلف الناتو في صيف 2018، هل يجب أن يستعد الشركاء في الناتو لاحتمال أن يتخذ ترامب هذه الخطوة خلال ولايته الرئاسية الثانية؟ - يُعتبر حلف الناتو اليوم أهم من أي وقت مضى، تبرز مخاطر جديدة تتطلب دفاعاً مشتركاً، وتستهدف الاعتداءات الإلكترونية قنوات التواصل الخاصة بنا أو المعالجة الرقمية لمعاملاتنا المالية. شارك بوتين في تسهيل أعمال القتل الجماعية في سورية، وخلق بذلك أزمة لاجئين أدت إلى تأجيج الاضطرابات السياسية في ألمانيا، وأصبح الناتو اليوم أكثر أهمية مما كان عليه لمواجهة هذه التهديدات ومخاطر ناشئة أخرى على أمننا وأسلوب حياتنا. • لكن يُشجّع ترامب الرئيس الروسي على اختبار مدى جدارة حلف الناتو. - لهذا السبب تحديداً، يجب أن تثبت ألمانيا إلى أي حد تدعم الحلف وتقف بقوة ضد حملة بوتين التخريبية من خلال زيادة إنفاقها على الدفاع مثلاً. • أعلن خَلَفك جون بولتون منذ بضعة أسابيع أن احتمال انسحاب ترامب من حلف الناتو خلال ولايته الثانية خيار وارد. - أظن أن احتمال انسحابنا من حلف الناتو ضئيل جدا، نحن لسنا نظاما ملكيا، لاتخاذ قرار مماثل، يكون رأي الكونغرس مؤثرا أيضا. • في بداية عهد ترامب الرئاسي، انضم مسؤولون عسكريون ورجال أعمال مخضرمون إلى الحكومة لحماية الرئيس من أسوأ ردود أفعاله، كيف يُعقَل أن يحصل ذلك؟ - في المقام الأول، أظن أن هذا الوضع يعكس نظرة خاطئة عن المنصب الرئاسي. الرجل الوحيد الذي يتم انتخابه في البيت الأبيض هو الرئيس، وإذا أضعف أحد أجندة الرئيس عمدا يعني ذلك أنه يتصرف ضد الدستور الأميركي ويتجاهل إرادة الشعب الأميركي المستقل. • ألستَ ملوماً إذا كنت ترفض تحذير الناس من رئيسٍ لا يحترم القواعد الديمقراطية، حتى انه لا يضمن انتقال السلطة بطريقة سلمية إذا خسر في الانتخابات؟ - أنا أدين كلمات الرئيس طبعاً. إنه موقف خاطئ ويطرح تهديداً على نظامنا الديمقراطي. مشاكل البلاد • أعلن جون بولتون بكل وضوح أنه يعتبر ترامب غير كفوء، ويبدو أنك تشاركه الرأي نفسه، لماذا لا تقول ذلك صراحةً؟ - ثمة نزعة غريبة في الولايات المتحدة للوم ترامب على جميع الشرور، هو شارك حتما في تقسيم المجتمع الأميركي، لكنه جزء من أعراض المشكلة وليس السبب الأصلي. إذا أصرّ الجمهوريون والديمقراطيون على القتال طوال الوقت فلن نتمكن من حل أكثر المشاكل إلحاحاً في بلدنا أو تقوية مواقفنا تجاه خصومنا. • هل ستغيّر عادتك في 3 نوفمبر وتصوّت في الانتخابات للمرة الأولى في حياتك؟ - نعم سأصوّت، لكني لن أشارك في السياسات الحزبية.
مشاركة :