ثلاثون عامًا ليست بالقليلة.. عودة مارسيل خليفة إلى «بيت الدين»، مساء أول من أمس، بعد كل هذه السنوات، وهو الذي افتتح المهرجان الأول بما يشبه التظاهرة الثقافية، كانت مؤثرة له ولعدد من الموجودين الذين شهدوا الولادة الأولى عام 1985، وفي عز أحداث الحرب الأهلية المشؤومة. كان الافتتاح مع أغنية «بغيبتك نزل الشتي قومي طلعي عالبال، في فوق سجادة صلاة والعم بيصلوا قلال» التي كتبها طلال حيدر. لم يتردد مارسيل خليفة في التذكير أن «الاحتفال يومها كان في الباحة الداخلية للقصر، والصديق وليد جنبلاط، كان يساعد في التنظيم لإجلاس الجمهور. كانت الأماكن أضيق من أن تتسع لكل الحاضرين الذين توزعوا حتى على الأسطح». وقال خليفة: «أرى أطفالا الليلة. في ذلك الوقت كان ثمة أطفال أيضًا، من كان عمره 10 سنوات، صار في الأربعين. لهؤلاء وقبل أن يناموا سنغني: كانت الحلواية واقفة عالمراية». لا يملّ من أغاني مارسيل خليفة ولا من صوته العذب المحمل بالشجن. بدت الموسيقى رشيقة ومجنحة ومليئة بالفرح. كان للأطفال الذين كبروا وبقي الحنين ينزع بهم إلى «بيت الدين» أغنية أخرى لا تقل طرافة ولا حيوية وهي: «يا بوليس الإشارة طفي وضوي الإشارة. صرلي مدة واقف هون ما عم توقف سيارة». للكبار والصغار وللعشاق والثوار وأصحاب الحنين يغني مارسيل.. جمهوره واسع كالفضاء الذي يحاول معانقته بموسيقى لا تني تتجدد وتوزع وكأنها ولدت اليوم. انتقل هذا الستيني الشاب، من أغنية إلى أخرى، وكأنما كل واحدة منها تمس نبضًا ما في جسد الحضور. «بين ريتا وعيوني بندقية» حفزت الحضور على مسابقة مارسيل في الغناء. استمع بعناية إلى هذا الهدير الناعم المتهادي الخارج من المدرجات وعلّق متوجهًا إليهم بالقول: «ما أحلاكن!». موسيقى مارسيل خليفة سواء حين تتخلل الأغنيات، أو حين تعزف منفردة، تقترب أكثر فأكثر من تصويرية بليغة تستدعي في الرأس مشاهد شتى. الجمهور الذي جاء للقاء مارسيل، في حفل يحمل العنوان نفسه للحفل الذي قدم منذ ثلاثين عاما، أي «وعود من العاصفة»، كان غفيرًا وكاد يقارب الخمسة آلاف شخص. مجموعة من الشبان العرب في زيارة للبنان اقترح دعوتهم الفنان واستجابت له رئيسة المهرجان نورا جنبلاط، تمركزوا على أحد الأسطح المطلة على المسرح، بينهم أردنيون وفلسطينيون، ما إن سمعوا «منتصب القامة أمشي» حتى انتفضوا وقوفًا وبدأوا التلويح بكوفيات بيضاء حملوها معهم. هذه الأغنية التي كتبها سميح القاسم، وأصبحت على كل لسان، لها فعل السحر في الحضور، لا تزال أيام الثورة تحرك في داخل العرب كوامن منسية. المقطوعات الموسيقية أوليت عناية خاصة، ولهذه الحفلة بالذات، وكي «لا ننسى في خضم هذه الحالة العامة الثوار الحقيقيين» كما قال مارسيل، كانت مقطوعة لاتينية الطابع، اعتمدت بشكل أساسي على الأكورديون، مهداة إلى تشي غيفارا، بعنوان: «تانغو لعيون حبيبي». في حوار بين الموسيقى والقصيدة ملقاة بنفح مارسيل خليفة، استمع الحضور إلى قصيدة محمود درويش البديعة «آخر الليل» التي تناجي الحبيبة. طلب خليفة من الحاضرين الصمت قدر الممكن، ورجاهم أن يسمعوها بعناية، «لأننا ربما نسينا الحب». وعلى أنغام البيانو أصغى الجميع إليه وهو يناجي «امرأة الأفكار الكسيحة، والجسد المتعاقب على الغزو، هذا أنا بعد الآهة المتقطعة الطالعة من بئر الصبر، حاضر دائمًا للنظر الطويل إلى عينيك، افتحيهما على مهل، ومدي جسور اليوم الطويل، إنني أتصيد النعاس». توالت الأغنيات القديمة بنكهة محدثة حتى تظن أنها ابنة اللحظة «طق طق طق طق والدني حربْ، علقاني بين شرق وغرب، قصف ونسفْ وقتلْ وضربْ، وشفتيني راكبْ بالوربْ وليش ما كنتي تخبيني». كثير من الطرافة والحيوية في هذا الأرشيف الغني بالشعر والنغم لمارسيل خليفة.. وكثير من الآهات أيضًا التي رددها الحضور للمشاركة في أداء أغنية «وأنت تعد فطورك، فكر بغيرك، لا تنس قوت الحمام» التي أهداها في هذه الأمسية الجبلية إلى الراحل كمال جنبلاط. وكي لا ننسى فلسطين، كانت أغنية خليفة الشهيرة «جواز السفر»، التي رافقها وتبعها صيحات وتصفيق متلاحق وقوي من الشباب العرب الحاضرين: «فلسطين.. فلسطين.. فلسطين» وهم يلوحون بالكوفيات، حتى آخر الحفل الذي انتهى كما العادة في حفلات مارسيل، بأغنية «يا بحرية هيلا هيلا». إلا أن المطالبة بعودة مارسيل إلى المسرح مع الصيحات الثورية للشباب العرب الحاضرين، أعادته مع الفرقة ليؤدي أغنيتين من أشهر ما عرف في أرشيفه، وهما: «يعبرون الجسر» و«وقفوني عالحدود قال بدنّ هوية». أبدع مارسيل خليفة مع فرقة الميادين، ومع ابنيه رامي على البيانو وبشار على آلات إيقاعية مختلفة. كان ثمة حوار جميل وروحاني يتدفق من المسرح باتجاه جمهور يقظ ومتحفز.. حوار بين الآلات الموسيقية، حوار بين مارسيل وعوده وبقية العازفين، وحوار أكبر بين كل هذا الانسجام العارم الذي تبادله الموجودون على المسرح، وحب الجمهور لمارسيل تاريخًا، وحاضرًا، وطموحًا رائعًا ليبقى جديدًا دائما، كأنه لن يشيخ ألبتة.
مشاركة :