ما إن نكتشف أن نادين لبكي المخرجة اللبنانية تضع لمستها في الفيلم، حتى نتيقن مسبقا أننا أمام فيلم "خارج الصندوق"، فكما عودتنا لبكي في أفلامها كافة، هي تنتهج أسلوبا مغايرا لما تقدمه السينما العربية، ويتجسد هذا الأسلوب في كل الأفلام التي تخرجها، فكيف إذا كانت هي البطلة؟! "1982" هو فيلم لبناني يحمل عنوانه فكرة مبدئية عن مضمونه، فعام 1982 هو عام الاجتياح الإسرائيلي للبنان، هو عام القصف والدمار. للوهلة الأولى ظننت أننا سنشاهد فيلما سياسيا، إلا أن المشاهد والقصة سلكتا اتجاها آخر، إنها رواية رومانسية مدمجة بأحداث العدوان وتفاصيله، حيث قام المخرج وليد مونس بالتركيز على الحب في الفيلم، لكنه استطاع أيضا إبراز براءة الأطفال وسحرهم، رغم ما يجري حولهم من خوف وعنف. حب على مقاعد الدراسة تجري الأحداث خلال يوم واحد في مدرسة تقع في منطقة برمانا على مشارف بيروت، حيث يحاول وسام البالغ من العمر 11 عاما، إخبار صديقته في الصف جوانا بأنه معجب بها، وعلى خط مواز الأستاذة ياسمين، تؤدي دورها نادين لبكي، على علاقة غرامية بالأستاذ جوزيف، يؤدي دوره رودريغ سليمان، لكنهما على جوانب مختلفة من الانقسام السياسي، يبدأ الصف الدراسي على أصوات الغزو والقصف المنبثقة من الراديو، ومع تقدم الساعات تبدأ الطائرات في التحليق فوق المدرسة، وهكذا تتصاعد وتيرة الأحداث والقلق، ففي الجزء الأول من الفيلم كانت الأمور تسير بشكل هادئ، والبيئة التي نراها هي بيئة فصل مدرسي عادي، أما في الجزء الثاني، فبدأ التشويق يزداد، رغم البطء في النقل بين الجزأين الذي أدى إلى الملل في بعض اللحظات، إلا أنه تم تخطيه بسرعة عندما احتد الغزو وعلت أصوات الطائرات والانفجارات، كل هذا يحصل خارج المدرسة لكن لا نراه، فقط نسمع الأصوات التي كانت كافية لنفهم حجم الدمار الذي يلحق ببيروت، وفي الوقت نفسه يعيش الأولاد الحب بقلق وتوتر ومشاعر جياشة. بين الحبيب والأخ يزداد قلق ياسمين حين تعلم أن شقيقها جورج انضم إلى القتال، وفيما يخبرها زميلها جوزيف بأنباء الغزو من خلال راديو صغير يحمله، تختلط أنباء الحرب بالحب، إذ يحاول جوزيف أن ينفرد بالحديث معها، ورغم أنها تكن له مشاعر قوية، فإنها تعارض آراءه الوطنية، وهذا ما يترك المشاهد أمام سؤال جوهري، هل الانقسام في الآراء سيؤدي إلى تدمير حب قوي من المفترض أن يكون مبنيا بعقول منفتحة بحكم المستوى العلمي للاثنين؟! حب ممزوج بالحرب تنقلنا عدسة المخرج بين ما يحصل في الصف، فأصوات القذائف تطن في آذان التلاميذ، والهم الوحيد لوسام هو إخبار جوانا بحبه لها سواء بخطاب يرسم فيه قلبا، أو بدخول معركة مع زملائه لإفساح مكان لها بجواره في الحافلة المدرسية، وطبعا تكتمل عناصر الفيلم بوجود الطفل الصديق للطفل الآخر والطفلة الغيورة والحاقدة على الطفلة الأخرى لمصلحة تطور الدراما داخل الفيلم، وفي خضم كل ما يحصل لقد تم تصوير الطائرات بطريقة إبداعية، جعلت المشاهد يدمع لما تتعرض له الطفولة من ظلم، فالأولاد بدل من أن يكونوا على مقاعد الدراسة آمنين، كانوا يتوترون وينظرون من النافذة لمعرفة أين تسقط القذائف، رغم أننا في الفيلم لا نرى الحرب بل نسمع صوتها من خلال الطائرات والانفجارات باستثناء مشهد تمر فيه الدبابات والعربات المسلحة بالقرب من المدرسة متجهة إلى الجهة الأخرى من بيروت، دون الإشارة إلى وجهتها، ما يعني أنه لا فرق إذا ما كانت تابعة لفئة معينة، فكلتاهما تستهدف بيروت. بين الحلم والحقيقة يبدأ ترحيل الأطفال عن المدرسة مع اشتداد حدة القصف وتأتي جوانا لتصعد الحافلة نفسها التي تقل الطفل وسام، وبعد اكتشافها أن وسام هو من كان يرسل لها الرسائل المرسومة التي تحمل إشارات الحب، وعند اشتداد القصف يقف الطفلان متلاصقين بالقرب من نافذة الحافلة، يطلان على الدخان المتصاعد من بيروت الغربية، تتلامس يداهما وتنطلق رؤية مشتركة بينهما بظهور أحد أبطال الكرتون التي يتابعها الأطفال، التي يتأثر بها وسام كثيرا، فلقد كان طيلة فترة الفيلم يرسمها على أنها أقوى شخصية خيالية وستأتي لتخلصهم من الخراب والدمار وتدافع عن المظلومين، وتجلت في المشهد الأخير للفيلم. أبرياء لكنهم ناضجون إن التباين الذي أظهره المخرج كان لافتا، حيث بانت نظرة الأولاد البريئة وحبهم، وفي الوقت نفسه نضجهم الفكري واللفظي، وظهر أيضا إدراك المعلمين للحقائق، وترك الأولاد يعيشون اليوم المدرسي كيوم عادي، بضحك وجدال ولعب، وتبادل الكرات أثناء الاستراحة، ولم يقتصر تميز الفيلم على قوة الحبكة والسيناريو الذي تميز بالسلاسة المفعمة بالعمق، بل ساعدت لقطات المخرج على إبراز تعابير تتماشى مع السيناريو، حيث ركز على الوجوه وتفاصيلها إضافة إلى تركيزه على لقطات من الطبيعة، وهذا الأسلوب تستعمله لبكي في أفلامها كافة، كما أنه لم يستخدم مشاهد حرب مباشرة أو صورا من القصف، لأنه لا يريد إحداث ألم نفسي، بل عبر بشكل غير مباشر عن تأثير القصف في الأطفال والكبار، وإصابة الجميع بالهلع. تعابير تأسرك أما الأداء التمثيلي فجاء مكملا للسيناريو والإخراج، فالطفل أبدع في تعابيره خاصة عندما يسرح بنظره، فيجعلك تندمج في مشاعره وأحاسيسه، أما نادين لبكي فإنها تأسرك داخل قلبها وعقلها بنظراتها خاصة عندما تتأثر وتدمع خوفا على أخيها، ومن جهة أخرى عندما تنظر الى جوزيف تتطاير من عينيها شرارات الحب، وهذا ما دفع بالفيلم للوصول إلى مهرجان الجونة السينمائي، حيث عرض بنجاح كبير في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، كما عرض في النسخة الأخيرة من مهرجان تورنتو، وحصل على جائزة أفضل فيلم آسيوي. ويعد "1982" أول الأفلام الروائية للمخرج وليد مونس، وهو سيرة ذاتية بالكامل له، يعتمد في الواقع على آخر يوم له في المدرسة في لبنان عام 1982، قبل أن يغادر البلاد. الفيلم بالكامل يقع في مكان واحد، في المدرسة، خلال يوم واحد، وتلك المدرسة في جبال لبنان. وليد مونس، مخرج لبناني مقيم ما بين لوس أنجلوس ولبنان، أخرج عديدا من الأفلام القصيرة The Rifle وJackal وWolf and the Boy، الذي تم ترشيحه لجائزة الأوسكار عام 2017، هو أيضا منتج لأفلام حائزة جوائز، وأغان مصورة لفنانين عالميين، من بينهم ديفيد باوي وآني لينوكس وجانيت جاكسون وكاتي بيري وجوستين تيمبرليك ولانا ديل ري.
مشاركة :