إنّ الظرف التاريخي الذي أكّد عليه سموه، واستدعاء الحاجة لإجلاء المواقف ومضمراتها التي تغيب عن الكثير ولا يدرك كُنهها سوى شهود العصر الأُمناء؛ يستوجبان أن يعاد النظر في كثير من الاستراتيجيات والتعاطيات مع الأحداث والمواقف والشخوص؛ فالمتربّصون والأفّاكون ومروّجو الأضاليل والأباطيل وبائعو الأوهام والمقتاتون على الزيف والخداع لا يؤمن جانبهم ولا تردعهم قيم ومواثيق وعهود.. ثمّة دلالة مهمة وعميقة يكتسبها ظهور الأمير بندر بن سلطان في توقيت وظرف سياسي معقّدين، عبر "قناة العربية"، سيما أنّ سموه - بحنكته ورصانته - لم يعتد على الظهور المجّاني كعادة الباحثين عن الأضواء، فهو زاهد وفي غَناء وغِنى عن أيّ وجود ما لم يكن له ظرف موضوعي ومنطوٍ على مصلحة وطنية؛ كما هو شأن الكبار حين يظهرون ليسجّلوا شهادة تاريخية، ويُفضون بما تكتنز به ذواكرهم من أحداث ومواقف وشهادات. لقد كان حضوراً ساطعاً متوهّجاً بالحقائق والحجج الدامغة، كدأب سموّه في إطلالاته؛ حضوراً واثقاً وعميقاً يمتح من ذاكرة سياسية تتّسم بالوثوقية العقلية والأخلاقية التي لا يخالطها زيف أو تزيّد وتهويل ومبالغة. وحين نتجاوز النبرة التوجّعية التي شابت حديث الأمير؛ وهو توجّع ينتسب للألم النبيل ذي القيمة الأخلاقية الرفيعة، ألمٌ مبعثه إحساس بخيبة متعاظمة أحدثتها حالة الجحود وغياب الوفاء المصحوب بأباطيل وأكاذيب وافتراءات لا تليق بتاريخ العطاءات السعودية الممتدة عبر ما يقارب القرن للقضية الأهم لدى القيادة السعودية؛ قضية فلسطين التي ساهم ملوكنا منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - في ترسيخ حضورها وجدانياً وواقعياً باعتبارها ذات رمزية عظيمة لنا كمسلمين كونها مهد الأديان السماوية الثلاثة وقبلة المسلمين الأولى، وشهدت معجزة الإسراء والمعراج وكانت ملتقى للتفاعل الحضاري. "الذاكرة" في حديث الأمير بندر كانت هي الملح الأبرز؛ فقد أعاد سموه الاعتبار للذاكرة كفعل مُقاوِم للزيف والكذب وترويج الأباطيل، وكرّس الذاكرة كقيمة معنوية وذات دلالة رمزية باعتبارها خزّان وعي وأرشيف أحداث ومحطّات ساخنة بالتوتّرات والتداعيات والمفاصل التاريخية المهمة؛ وكأنّ سموّه يريد التأكيد أنّ الظرف الحالي المعقّد بتحدّياته وتداخلات أحداثه يستدعي تبصير الجيل بتاريخ ومواقف بلاده المشرّفة؛ ولا غرو أن يكرر سموه أن الحديث موجّه في الأساس لأبناء وبنات المملكة العربية السعودية ليقفوا على مسافة علم ووعي بأدوار قيادتهم العظيمة التي يحاول الأفّاقون الكاذبون وناكرو المعروف من قيادات فلسطينية تبخيسها وتضئيل قيمتها وحضورها في الذاكرة الجمعية؛ وهو جحود يعكس حالة من النسيان أو التناسي والخَبَل المَرَضيّ والنوم أو التناوم المقصود عن حقائق ومواقف جليّة لا تُحجب شمسُ عطائها بغربال جحود. كان سموه في حديثه يركّز على التكرار وأنّه يعلّم الشطّار؛ إذ سئم سموّه ترداد المواقف والأحداث متى ما دعت الحاجة، واليوم يعود ويكرّر مواقف قيادتنا متّكئاً على قيمة التكرار كأداة وظاهرة أسلوبية فاعلة ونسق تعبيري وسمة أصيلة لكل أداء لغوي؛ وما أحوجنا لهكذا أداة في ظل وجود خطاب تضليلي مُعتِم ينطوي على معانٍ لا يمكن تأويلها وقراءتها بِحُسن ظنّ وثقة أطراف أبدت عِداءها ونياتها الشريرة! من هنا فإنّ قلق سموّه من مداهمة النسيان للذاكرة الجمعية هو قلق مُبرّر ولا يتماهى مع عظمة مواقف المملكة وتضحياتها العظيمة؛ ومن هنا فَتَحْيِين ومُواقَتة المكاشفة الصادقة وبما اعتراها من ألم هو صون لذاكرة كل مواطن ومواطنة فاستدعاء الذاكرة والتذكُّر من شأنه أن يسدَّ الفجوات العقلية والفكرية ويرمّم الذاكرة المعطوبة التي علاها غبار النسيان. وقد اعتبر الفيلسوف بول ريكور أن، "النسيان ضعف الظرف التاريخي ككل". الذاكرة ضربٌ من المعرفة والتذكُّر هو إعادة امتلاك الحقيقة؛ وهذا ما قام به الأمير بندر بن سلطان ببراعة وتوقّد ذهن ونشاط وحيوية ذاكرة. وبعيداً عن المحاور التاريخية والمهمة التي سردها سموه في حديثه العفوي الرصين العميق؛ وبتسلسل التواريخ والأحداث والتدفق والاسترسال الذهني المذهل والمدهش؛ والسرد لتلك المواقف - وهي عديدة وتبعث على الفخر والاعتزاز بقيادتنا ودولتنا وحضورها الدولي الكبير - فإنّ الظرف التاريخي الذي أكّد عليه سموه، واستدعاء الحاجة لإجلاء المواقف ومضمراتها التي تغيب عن الكثير ولا يدرك كُنهها سوى شهود العصر الأُمناء؛ يستوجبان أن يعاد النظر في كثير من الاستراتيجيات والتعاطيات مع الأحداث والمواقف والشخوص؛ فالمتربّصون والأفّاكون ومروّجو الأضاليل والأباطيل وبائعو الأوهام والمقتاتون على الزيف والخداع لا يؤمن جانبهم ولا تردعهم قيم ومواثيق وعهود. ذاكرة كل مواطن ومواطنة يجب أن تبقى ذات حضور ديناميكي ويقظ؛ فهي بوصلة الوعي التي ترشدنا إلى مواطئ الحقيقة وتجنّبنا الانزلاق في وحل الزيف والكذب والبهتان؛ وهنا بات من الضرورة إعادة النظر في مناهجنا ومراكزنا البحثية وجامعاتنا ومحاضننا التعليمية بأن توثّق وتبرز جهود المملكة العربية السعودية بالوثائق والأرقام وتدعيمها بالمقاطع المرئية التاريخية وبسالة مواقف بلادنا في مواجهة التحديات وتضحياتها الجسام وانحيازها للقضايا العادلة مع كل الشعوب؛ حتى لا يتسلل أي متربّص ويحاول أن يطمس أو يقلل من تلك الجهود. إنها فرصة تاريخية بأن نعيد موضعة فكرنا واستراتيجياتنا في موقعها الصحيح الذي يقودها لحاضر أكثر وضوحاً ونجاعة؛ موضعة تضمن سلامة ترابطنا والتحامنا مع قضايانا وهمومنا وبما يكفل صون ضميرنا الجمعي.
مشاركة :