كنا نقف ملياً، في دراستنا لنصوص النقد الأدبي، أمام نظرية مفادها أن الشاعر الحقيقي هو ذاك الذي يولد شاعراً بفضل ما يسمى بالموهبة الإلهية التي حباها الله جلت قدرته بعض عباده المختارين. وأنه لا يمكننا أن نصنع شاعراً من إنسان لا يملك الملكة أو الموهبة الشعرية. وهذا النظرية تصدق بلا شك على جميع الفنون سواء في مجال الموسيقى والفنون التعبيرية أو التشكيلية. فالفنان يولد وتولد معه موهبته فهو مفطور ومجبول على هذه الموهبة. غير أن الموهبة نبقى ناقصة ما لم نتعهدها بالعلم والمعرفة ليتم صقلها على أسس علمية منهجية في المعاهد المتخصصة سواء في مجال الموسيقى و الأدب و كذلك الحال بالنسبة إلى الفنون التشكيلية وفنون الأداء وغيرها من الفنون. ونحن هنا في البحرين، لسنا استثناء من هذه القاعدة. فلدينا الكثير من المواهب الفنية التي لو تهيأت لها الرعاية والتشجيع الكافيين لنمت وتطورت. ولا شك أن الرعيل الأول من الفنانين التشكيليين في البحرين كانوا فنانين بالفطرة وكانوا يمارسون الرسم وحتى النحت دون الالتحاق بمعاهد فنية والانخراط في أكاديميات الفنون التي تمنح الدرجات والشهادات الجامعية. ومن بين فناني الفطرة هؤلاء في البحرين، الفنان المتميز، متعدد المواهب عبد العزيز علي زباري (1936 -2015)، الذي فارقنا يوم السبت 23 من شهر مايو المنصرم. كان عبد العزيز زباري فناناً بالفطرة متعدد الاهتمامات، فإلى جانب الرسم، احتل التصوير الفوتوغرافي حيزاً كبيراً من اهتماماته. فقد كانت علاقته بكاميرا المحترفين الرولفلكس علاقة الهواة. ومع ذلك فقد برع بالتصوير حيث كانت الكاميرا لا تفارق يديه. ولو قرر احتراف التصوير وفتح استوديو خاصاً به لكان له شأو عظيم في عالم التصوير الفوتوغرافي. ولعل ما كان يميز عزيز زباري ويجعله مختلفاً عن كثير من الفنانين والرسامين التشكيلين الأوائل الذين لم تسعفهم الظروف للالتحاق بمعاهد وأكاديميات الفنون، هو حبه للمعرفة والتثقيف الذاتي، الأمر الذي جعله يتعرف على مختلف المدارس الفنية خصوصاً الغربية منها والتي شكلت خلفيته الثقافية من خلال تعرفه على مخنلف الاتجاهات بدءاً من المدارس الكلاسيكية وانتهاء بالمدارس الحديثة والتجريدية. ولعل الشيء الذي لا يعلمه الكثيرون عنه هو شغفه بالقراءة و اقتناؤه لمكتبة فنية تضم المئات من المؤلفات التي تتناول مدارس الفنون والفنانين. فقد مكنته تلك المكتبة من التعرف على الفنانين القدامى والمحدثين عبر رحلته الطويلة في التثقيف الذاتي ومن خلال زياراته المتعددة لمتاحف الفنون في مختلف البلدان التي تمكن من زيارتها. يخيل لي أن عبد العزيز زباري كان سيحقق حضوراً متميزاً على ساحة الفن التشكيلي في البحرين لو قدر له القيام بالتركيز على تنمية ملكته وموهبته الفنية من خلال رسم الوجوه (البورتريهات) بدلاً من تشتيت اهتماماته المتعددة متنقلاً بين عدة أساليب ومدارس فنية. ولو سنحت له فرصة لحضور دورات متخصصة حتى وإن كانت قصيرة الأمد في إحدى أكاديميات الفنون خارج البحرين فإن مردودها سيكون كبيراً على تطور موهبته. فأعماله التي تركها لا يمكن للعين الناقدة أن تخطئها للتعرف على موهبة دفينة وشعوراً مرهفاً تميز بسيطرة اللون الأزرق بدرجاته المختلفة بسبب تأثير بيئة البحرين البحرية. أما علاقته بالمسرح فقد كانت من خلال أنشطة أسرة هواة الفن التي تحولت فيما بعد إلى أسرة فناني البحرين والتي لم يكتب لها الاستمرار بسبب تشتت واختلاف أهواء وأمزجة المنتسبين إليها. وكانت أنشطته فيها متعددة فإلى جانب التمثيل كان مصمماً ومنفذاً لديكورات أو سينوغرافيا الأعمال المسرحية التي كانت تقدمها الأسرة في ذروة نشاطها. كما برع في فن المكياج الذي مكنه فن الرسم من إتقانه وجعله يتعامل مع وجوه الممثلين كما لو كانوا مساحة من الكنفاس، كما استطاع أن يحول الممثلين و الممثلات الشباب إلى كهول حسبما تتطلب أدوارهم. وإضافة إلى اهتماماته المتعددة بفن المسرح، كان عزيز زباري مولعاً بفن السينما. فقد كان حريصاً على مشاهدة الأفلام الغربية والعربية التي كانت تعرض في دور السينما في فترة الخمسينيات والتي كانت تعد على أصابع اليد الواحدة. ولم يكن وقتها يفوته فيلم يعرض في دور السينما في مدينة المنامة أو حتى في عوالي حيث كانت هناك داران للسينما إحداهما كانت مكيقة وفخمة بمقاييس تلك الفترة والأخرى في الهواء الطلق لموظفي شركة نفط البحرين غير الأوروبيين. والملفت للنظر أنه وبسبب ولعه بالسينما كان يتمتع بذاكرة عجيبة سجلت معلومات تتعلق بنجومها والأفلام التي مثلوها. وفيما يتعلق بالجوانب الشخصية من حياة عزيز زباري والتي لا يعرفها إلا المقربون من معارفه، فيمكننا القول بأنه كان وفياً لأهله وأصدقائه على حد سواء. أضف إلى ذلك أنه كان كريماً ومعطاءً إلى أبعد الحدود. ولعل من عاشره عن قرب سيتذكر كم كان يعمل بجد ونشاط عندما تولى مسؤولية إدارة مشروع تجاري مع أحد أصدقائه الذين تعرف عليهم في حقبة أسرة هواة الفن. وقد ظل مخلصاً لهذا الشريك حتى بعد وفاته الأمر الذي أدى إلى تنازله عن حصته في هذا المشروع إلى ورثة الصديق الراحل. كانت تلك الخطوة التي أقدم عليها رغم حاجته إلى دعم مادي في السنوات الأخيرة من حياته مثار استغراب بعض المقربين منه. مع ذلك فقد كان قليل التذمر ونادرا ما كان يجأر بالشكوى لتقلب صروف الزمن، فقد كان شاكراً و قانعاً بما قسمه له الله. ربما كان عزيز زباري حسب تقييم بعض نقاد الفن في بلادنا فنانا عادياً غير أنه في تقييم محبيه ومن عرفوه عن قرب كان بالتأكيد إنساناً غير عادي. حيث كان له دور بارز في اكتشاف العديد من المواهب بين طلاب مدرسة المنامة الثانوية حيث قضى عدة سنوات كمدرس لمادة التربية الفنية و تتلمذ على يديه العديد من الطلاب الذين أصبح لهم شأن في الحركة الفنية في البحرين. أضف إلى هذا دوره كإداري شديد الحماس لعمله التطوعي في أسرة فناني البحرين وهي جمعية أهلية تعنى برعاية مختلف الفنون التي يقدمها شباب تغلب عليهم صفة الهواية. كان عزيز زباري إنساناً بكل ما تحمل الكلمة من معنى وصديقاً وفياً عرفته عن قرب وأعتز بصداقته الحميمة. وفوق ذلك كان الصبر من بين خصاله الحميدة. ورغم ما ابتلي به من أمراض، كان دائم الحمد والشكر لله جلت قدرته. وكان كثيراً ما يردد الحمد لله على كل حال وكم سنعيش؟ وقد من الله عليه بطول عمر نسبي، ومع ذلك فما كان يختلف عن أي شاب ذي معنويات عالية وصاحب قلب مفعم بالحيوية والنشاط. سأفتقدهذا الإنسان والصديق الصدوق الذي ستبقى ذكراه باقية في مخيلتنا وكم كنت أتمنى لو أنه نال في حياته جزءاً من التكريم الذي كان يستحقه عن جدارة. رحم الله عزيز زباري فقد كان فنان الفطرة بحق.
مشاركة :