القاهرة: «الخليج» اختطف الموت نجوم الشعر الرومانسي في إنجلترا، وهم في زهرة الشباب، فالشعراء بايرون، وكيتس، وشيللي، لم تزد حياة الواحد منهم على ثلاثين عاماً أو يزيد قليلاً، وغالباً ما كانت نهايات تراجيدية، ويقابل هؤلاء الشعراء في إسبانيا الشاعر جوستافو أدولفو بكر الذي ولد في مدينة إشبيلية في فبراير/ شباط عام 1836، وقضى فيها طفولته وصباه ولم تتعد حياته 34 عاماً، كتب فيها قصائده، وطبعت بعد وفاته بعام في ديوان، حمل عنوان «أشعار»، وقد مر شعراء اللغة الإسبانية على دربه، قبل أن ينفردوا بشخصيتهم المستقلة، وترجمت أشعاره إلى معظم اللغات الرئيسية في العالم. كانت الحركة الرومانسية الأوروبية امتدت آثارها إلى الأدب الإسباني، بفعل صحف تفرغت لمتابعة أخبار شعرائها، وبفعل الترجمات التي نشرت بالإسبانية، لأعمال رومانسية خالدة لفيكتور هوجو، وبايرون، وشيللي، وهايني، وغيرهم، وبدءاً من عام 1810 ازدهرت ألوان الأدب الإسباني المختلفة، وانتشرت الأعمال التي شاعت فيها الروح الرومانسية، وقدر لجوستافو أن يحيا طفولته وصباه في ذلك التيار العام، ويتأثر به، إضافة إلى إسهام الظروف التي أحاطت بحياته، بنصيب وافر في تشكيل روحه، بالطريقة التي مالت به إلى هذا المنحى. شقاء أسري كانت بداية الشقاء لديه عند وفاة أبيه، ولما يتجاوز خمس سنوات من عمره، ولم يكد يتم عامه الحادي عشر حتى رحلت أمه، ما أدى إلى تشتت شمل الأسرة، إذ عاش مع واحدة من صديقات والدته ميسورة الحال، وقد أورثته تلك الظروف قلقاً روحياً، وخلعت على قصائده كآبة ما، انطلاقاً من فكرة الحرمان من الملاذ، والمأوى، حيث قضى فترة تكوينه الفني حتى عام 1854 عاكفاً على قراءة بلزاك، وجورج صاند، ولورد بايرون، وموسيه، وهوجو، ولا مارتين، إضافة إلى سرفانتس. وعملت تلك السنوات التي انكب فيها جوستافو على القراءة، على إغراقه في عالم غريب تماماً عن العالم الواقعي، كما أعانته قراءاته الرومانسية على تنمية ميوله نحو تأمل الذات، وقدمت له عالماً من الأحلام، والمغامرات، عوضه عن غياب اتصاله بعالم اللهو، ومن هنا انتقل للعيش في مدريد، ليضطر إلى العمل من أجل توفير لقمة العيش، فيعمل محرراً في صحف مختلفة، يترجم لها من الصحافة الفرنسية، ويعلق فيها على بعض المسرحيات، والأشعار، وساعده ذلك على الاتصال المستمر بالحركات الأدبية المتجددة في الخارج، ومتابعة كل جديد في عالم الفن، والأدب بالداخل، وبدأ في تلك الفترة بنشر قصائده في الصحف. وكان جوستافو يتعلق بالفن، والشعر، كلما عصفت به حياة العاصمة القاسية، التي لا تأبه بالشعراء، فعرف حياة الفقر، والجوع، ولم يكن أمامه من ملجأ سوى الكتابة، وعالم المرأة، خصوصاً أنه كان لديه إحساس بالخذلان منذ صغره، فحاول الهروب إلى عالم مثالي، لا يعرف معنى الإحباط، وكان الحب الوحيد له هو الذي لا يمكن تحقيقه، والمرأة الوحيدة في حياته هي التي يستحيل وجودها، وكان أن اقترف «العثرة» التي تميز الأبطال التراجيديين، فأقدم على زواج مفاجئ عام 1861 من فتاة تنتمي إلى طبقة دنيا، قليلة الحظ من الثقافة، لا تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها، كانت باهرة الجمال، خلّدها في عدة مقطوعات، وبعد وقت قصير أدرك مدى الخطأ الذي وقع فيه، فلم ينعم بالاستقرار، ولا بالسعادة، ولم يخفف عنه في تلك الفترة سوى التحاقه بالعمل في صحيفة مشهورة، نشر فيها قصائده. استقرار يقضي جوستافو وقته ما بين الصحيفة، والمقهى، حيث تنعقد الندوات، أو تراه جوالاً في شوارع مدريد، زائراً لحلبة مصارعة الثيران، إذ أصبح يتجنب البقاء فترات طويلة في منزله، وفي عام 1865 يتحقق له بعض الاستقرار المادي، إذ يحصل على وظيفة حكومية، يسّرها له وزير الداخلية، وكان من أشد المعجبين بقصائده، وقد توفر في ثلاثة أعوام على إكمال قصائد ديوانه، وأعد مخطوطاً له، أعاره إلى صديقه الوزير ليقرأه، إلا أنه فقد أثناء الاضطرابات التي اجتاحت مدريد أثناء ثورة 1868 التي أطاحت الحكومة القائمة، وأطاحت معها وظيفة جوستافو. نداء الروح كان ضياع مخطوط الديوان الأساسي لجوستافو خسارة كبيرة، تركت آثاراً مريرة في نفس الشاعر، ضاعف منها انفصاله عن زوجته في العام نفسه، وعاد إلى العمل في الصحافة، وعكف في الوقت نفسه على إعداد مخطوط آخر لديوانه، إلا أن القدر لم يمهله كثيراً ليرى نتاجه يخرج إلى النور في كتاب، فقد طوى الموت صفحة أخيه، فأنزل به ضربة قاصمة، ولم يعد أمامه سوى أن يكف عن الصراع في الدنيا، ويدع جسده يلحق بأخيه، فأصيب بعد شهرين بالتهاب رئوي حاد، لم يتحمله صدره العليل فقضى عليه في ديسمبر/ كانون الأول 1870 وكان موته يقارب الموت الرومانسي، فبعد أن صم أذنيه عن ضجيج العالم من حوله، أنصت إلى نداءات روحه.
مشاركة :