رؤية فلسفية لمنتدى القيم الدينية

  • 10/18/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

اختتمت أمس السبت السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول أعمال منتدى القيم الدينية لمجموعة العشرين، ويسبق المنتدى قمة العشرين في دورتها الخامسة عشرة، والتي ترأسها المملكة العربية السعودية هذا العام. أما عن أخبار ما دار في المنتدى، والكلمات التي ألقيت هناك، فيمكن للقارئ أن يجدها عبر الكثير من المواقع والمواضع التي اهتمت بأحداث المنتدى. على أن الأسئلة الجوهرية التي تبقى حاضرة في الذهن موصولة بمعنى ومبنى ورمزية هذا المنتدى، وفي هذا التوقيت المثير حول العالم، ودلالة استضافة المملكة له بنوع خاص. أما عن الظرف الزماني، فيأتي الحدث في ظل اضطراب عام يشمل البشرية من أقصاها إلى أدناها، ومن شمالها إلى جنوبها، لا سيما من آثار فعل الجائحة الكورونية ،وعودتها لتتفشى بين صفوف البشرية، والتبعات القاتلة التي تخلفها ما بين ضحايا في البشر وخسائر على مستوى الحجر، ولهذا كان لابد من الاستعانة بحجر زاوية يتم الارتكاز عالميا عليه، وليس مثل الأديان يمكن أن يكون هكذا حجر، الأمر الذي يذكرنا بما قاله برنارد شو ذات مرة من أنه: "عند العاصفة يلجأ المرء إلى أقرب مرفأ". أما الظرف المكاني فمعقود بالمملكة العربية السعودية، وإن كانت ظروف الجائحة قد حالت دون اللقاء المباشر، فإن التواصل الافتراضي عبر مجال الاتصالات الرقمية، وكما أشار الأستاذ فيصل بن معمر ، الأمين العام لمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، مكن من دعوة أكثر من ألف من الشخصيات المرموقة والمتحدثين والقيادات الدينية والخبراء وصناع السياسات والمشاركين . استضافة المملكة وعبر أطرافها المجتمعية وبالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة لحوار الحضارات لمنتدى القيم الدينية، إنما يعكس أمرا غاية في الأهمية ، ألا وهو النظرة التقدمية المملؤة احتراما لدور المملكة المنفتح على العالم، ذلك أنه وفيما هي قلب العالم الإسلامي النابض، فإنك تجدها طليعة لتجميع المؤمنين من أبناء إبراهيم عليه السلام أول الأمر، كما تشرع أبواب المحبات واسعة لكافة البشرية من كل صوب وحدب ثانيا، فالجميع وعلى حد تعبير البابا فرنسيس في رسالته البابوية العامة الأخيرة أخوة. يعن لنا أن نتساءل: "وهل من أهمية للقيم الدينية بعد، لا سيما ونحن على مشارف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين؟ ما يحدث حاليا من عودة إلى شواطئ الإيمان الدينية، يذكرنا بأن الأنوار العلمانية قد أعمت الغرب لعقود طويلة خلت، وتحديدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالقدر نفسه فإن الأصوليات بالمعنى الضار، قد تفشت في الشرق، وبينهما تحتاج النفوس إلى واحات للاطمئنان في وسط من السماحة الإيمانية، تلك التي تفسح المجال للآخر لا سيما المغاير، عرقا وجنسا، دينا ومذهبا. الذين قدر لهم متابعة أعمال المنتدى والكلمات التي ألقيت عبره، يمتلكون الآن ولاشك جوابا شافيا وافيا على أديب فرنسا الكبير، ووزير ثقافتها، "أندريه مالرو"، الرجل الذي تساءل ذات مرة من ستينات القرن العشرين عن ملامح ومعالم القرن الذي يليه، وهل هو: "قرن ديني أم لا". لقد بات جليا أن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ركيزة أمان واستقرار، وأثبتت الجائحة أن الغرور الإنساني وهم وزيف لا محل لهما على سطح الكرة الأرضية، كما أن حديث التفاضل والمقاربات غير الخلاقة لم يكن ليضيف للإنسانية دروبا واسعة لحل المشكلات والنوازل، فيما التعاون الخلاق، كفيل باستنقاذ الجميع من معضلات باتت تتراكم فوق الرؤوس ومن غير مقدرة حقيقية على تجاوزها. والشاهد أن مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، قد لعب دورا جوهريا في الإعداد الناجح لهذا المنتدى، ولقد كان لتأسيس المركز بمبادرة من المملكة العربية السعودية بحكم قيادتها للعالم الإسلامي قيمة نوعية مضافة لدعم الحوار العالمي بين أتباع الأديان والثقافات، سيما بعد بروز الشرخ العميق، الذي أحدثه الربيع العربي بين المجتمعات الدينية المختلفة في المنطقة العربية. لقد نجح مركز الحوار العالمي في إيصال صوت المنظمات والقيادات الدينية إلى ساحة الجهود المتضافرة المبذولة للتصدي للجائحة على سبيل المثال، في المنطقة العربية، أعلن المركز مؤخرا عن دعمه لمجموعة من المبادرات الهادفة إلى مكافحة التداعيات السلبية لهذه الجائحة المروعة على التماسك الاجتماعي والرفاهية. لم يكن المنتدى وليد اللحظة، وإنماء جاء وليد شهور طوال ربما بدأت في يوليو تموز من العام الجاري، وعبر مشاورات إبداعية مع الشركاء من معظم دول العالم، وكان البحث في كيفية خلق جسور وهدم جدران، جسور مودات يمكن العبور عليها معا يدا بيد، وهدم جدران من المنظومات الفكرية الفاسدة التي تعاود الظهور أمميا، من نوعية صحوة القوميات، وانتشاء العصبيات والشوفينيات من جديد. مشاورات الأشهر المنصرمة وضعت على مائدة النقاش قضايا تجعل من القيم الدينية العاصم الحقيقي في أزمنة المحنة التي نعيشها، لاسيما وأنها عقبات لا توفر أحدا من المليارات السبعة، من نوعية آثار تغير المناخ، وعدم المساواة بين الجنسين، وغياب التوازن الاقتصادي، ومساوئ الحوكمة . خرج منتدى القيم الدينية خلال الأيام المنصرمة بقيمة رئيسة وهي أن الخليقة أمام لحظة مصيرية، فإما العبور سويا، أو الانتكاسة معا لا قدر له. ترى من يستحق التهنئة على هذا المجهود المشرف؟ هل مركز الملك عبد الله للحوار العالمي "كايسيد"، أم اللجنة الوطنية للحوار بين أتباع الأديان والثقافات في المملكة، وربما جمعية القيم الدينية لمجموعة العشرين؟ المقطوع به أن الجدير بالتهنئة في كل الأحوال، كل من شارك في الإعداد لهذا العمل المبدع من جهة، وكل من استمع إلى المداخلات الجزلة والرصينة. أما التهنئة الأنفع والأرفع الواجب تقديمها، فإنها من حق كل من جعل من مقررات هذا المنتدى واقعا حيا معاشا، وقدر له ترجمته على أرض الواقع، في مساقات ومسارات أكثر إنسانوية.

مشاركة :