«17 تشرين»... الثورة حتى تتجدد!

  • 10/22/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

دخلت «ثورة تشرين» اللبنانية عامها الثاني بهدوء، رغم الجدل الذي لا نهاية له عما أنجزته، وما كان يمكن أن يكون الأفضل، أو الأنسب، أو الأفعل، وصولاً إلى أن أكثر قوى التحالف السلطوي وأتباعه، لم يتورعوا عن تحميل الثورة أوزار الانهيار وتفاقم المجاعة، والانهيار الأمني كما زعم النائب جبران باسيل، وصولاً إلى انتشار الجائحة على النحو الخطير الذي يضرب لبنان، بعدما تداعت كل مزاعم الحكومة الواجهة عن أن التدابير والاحتياطات التي اتخذتها أثارت دهشة العالم!ما هو أكيد أن ما بدأ في لبنان في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 كان تحركاً شعبياً عفوياً، كسر مع عقودٍ من الظلم وازدراء الحقوق وانتهاك الكرامات، والمضيّ في ممارسات فئوية كرست تفاوتاً اجتماعياً وانعدام المساواة، بما لم يعرفه لبنان قبل الحرب الأهلية. في تلك المرحلة ما من أحد كان يتوقع أن البلد قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس، فقد كان هناك كثير من الضخ الإعلامي الرسمي والطمأنة الدورية من أن الليرة بخير، لتظهر ملامح الإفلاس ويتبين سريعاً أن المنهبة طالت ودائع الناس في المصارف!طبعاً كانت المحركات الدافعة للنزول إلى الساحات مطالب حياتية واجتماعية تفاقمت مع الإفلاسات واتساع البطالة، لكنّ حجز الودائع وارتباط ذلك بانكشاف دور المصارف وارتباطه الوثيق بالمنظومة السياسية أحدث نقلة نوعية في منحى التحرك الشعبي، مع التأكد من أنه من المتعذر على منظومة الفساد الناهبة تلبية أي شيء. لم يكن من داعٍ للانتظار لبلورة المنحى والأهداف، والدليل أنه مرت سنة بكاملها ولم تتخذ السلطة أي قرار لمصلحة المواطنين، لا بل بدا أنها ربطت استمرارها بتفاقم الانهيارات. كان هاجس مَن يخطط هذه السياسة المحافظة على ستاتيكو سياسي استناداً إلى بندقية «حزب الله» غير الشرعية. هذا ما بلور سريعاً المطالب التي تمحورت حول عنوان اقتلاع المنظومة المتحكمة، فاكتسب التحرك كل سمات الثورة السلمية الشعبية، مع مفارقة كبرى أنها ثورة تحت سقف الدستور وهاجسها استعادة الدولة المخطوفة.لقد طرحت الثورة عنوان اقتلاع المصالح الطائفية والمذهبية وسلطة نظام المحاصصة الطائفي القوي، بطبعته التي تبلورت مع نظام الاحتلال السوري قبل ثلاثة عقود، وتعمقت أكثر بعد عام 2005، مع سيطرة النظام الإيراني، من خلال «حزب الله»، الفصيل الأبرز في قوات «فيلق القدس»، ذراع تمدُّد الهلال الفارسي في المنطقة. رتّب أركانُ منظومة الحكم طرقَ ممارسة السلطة والتسويات فيما بينهم، التي اعتمدت على ميزان قوى ظرفيٍّ، فكانت البدع مكان الدستور، وتم تطويع القوانين التي طُبِّقت باستنسابية كبيرة. شملت المحاصصةُ القضاءَ، وانتفى دور هيئات الرقابة، وجرى استتباع القوى العسكرية، فكان أن دُفعت بعد الثورة إلى اعتماد نهج ترهيب المتظاهرين السلميين وملاحقتهم بالاستدعاءات والتحقيقات والتوقيفات!التصدع الذي أصاب منظومة الحكم تباعاً، منذ اضطرار الحريري لتقديم استقالة حكومته، أحرج «حزب الله» الذي تموضع في مقدم القوى المدافعة عن نظام المحاصصة الفاسد والذي يحمي الفاسدين، وبدأت عمليات الترهيب والاستهدافات المختلفة، والشغل الحثيث لإعادة تسليط الضوء على ما كان للانقسام الآذاري 8 و14، ما عطّل دور بعض الفئات، وتصاعد التهويل بشبح الحرب الأهلية، وحتى السعي إلى إبراز خطوط التماس القديمة... لكن ظلّ نجاح القوى المضادة محدوداً رغم أنها تمتلك المال والإعلام والتنظيم وقدرات الدولة والسلاح. ويعود السبب إلى أن أشهُر الزخم الشعبي حملت إلى أبعد المناطق وعياً وطنياً تغلغل في نسيج البلد، وما كان له التأثير الذي حدث لولا ميزة المشاركة الكثيفة من جانب الطلاب والنساء، ما سرّع بإدراك حقيقة أن الجماعة الممسكة بالحكم منذ ثلاثة عقود انتهت صلاحيتها، وهي في كل أدائها متصادمة مع الحاضر، فكيف حيال أحلام الناس وحقوقهم وهم مَن تجرأ ورفع صوت الاعتراض!كانت كثيرة المقارنات مع أحداث شهدها لبنان الاستقلال، وانتهت بتسويات أدخلت تغييراً على التوازنات القائمة داخل التركيبة السياسية. من الإضراب العام ضد بشارة الخوري في عام 1952، إلى «ثورة» عام 1958 في وجه كميل شمعون، وكل الأحداث الخطيرة التي ضربت لبنان بعد عام 1969 حتى نهاية الحرب الأهلية في عام 1990. وكانت قد بدأت هذه المرحلة إثر تخلي لبنان عن سيادته من خلال اتفاق القاهرة، وصولاً إلى أحداث عام 2005، كانت «ثورات» من فوق، عكست احتدام الصراعات على الحصص وتقاسم المنافع ومغانم الحكم بين من توارث السلطة!المقارنة اليوم لا تصح. تأثير الثورة واضح للعيان في كل أداء السلطة، فهم لأول مرة يتحدثون عن حكومة من خارج منظومة أحزاب الحكم الطائفية، وسبق أن حاولوا خداع الرأي العام بأن حكومة حسان دياب كانت من مستقلين، وعلى جدول الأعمال، رغم المكابرة، حديث تفصيلي عن وجوب الذهاب إلى مرحلة انتقالية، بعدما بات مطلب الثورة قيام حكومة مستقلة برئيسها وأعضائها، أمراً مقبولاً من كل عواصم القرار، التي بدأت تعاقب المنظومة الفاسدة بتجاوزها، وتوجيه مساعدات الإغاثة إلى مستحقيها مباشرة.غير أن العبور الهادئ إلى السنة الثانية من الثورة، ليس هو الهدف في حد ذاته. مع رسوخ الجو الدافع إلى التغيير السياسي وإيمان الناس بأن هذا التغيير آتٍ، وأن الطغاة الذين أذلّوا اللبنانيين سيدفعون الثمن، فإن الركون للهبّات الموسمية والتلقائية قد يرتدّ عكسياً، ويترك نتائج وخيمة. وثابت أن المحاولات الفوقية التي تكررت باسم «المجموعات» لبلورة حالات قيادية شبه منتهية، وما من داعٍ للتكرار الممل مع انكشاف الكثير من النماذج المتسلقة، التي هرعت مرة طارحة نفسها على موفد فرنسي، وثانية على موفد أميركي، وبينهما سعت إلى موقع مستشار أو خبير... حتى مع التركيبة الهجينة التي ترأسها حسان دياب.هناك اليوم تحدٍّ مزدوج يواجه تجدد ثورة اللبنانيين السلمية؛ أولهما تحدي الانتقال من العفوية لإقامة تنظيم سياسي (أو تنظيمات) لإيجاد بنى أفقية صلبة، على طريق قيام جبهة معارضة سياسية، ستبلور حتماً قيادات موثوقة. ولم يعد ترفاً بلورة صيغة إطلاق شبكة أمان وطنية عابرة للمناطق، إنْ لدورها القيادي أو لازدياد الحاجة إليها كحالة دفاعية، لأنه كلما انكشف هريان السلطة سيزداد الميل لممارسة العنف بوجه الناس.أما التحدي الثاني الذي لا يقل أهمية عن الأول، فهو البرنامج السياسي، والدعوة باتت ملحة إلى ملامسة العناوين، ومن أبرزها كيفية التعاطي مع السيادة وبسطها بواسطة قوى الشرعية وحدها من دون شريك، والزمن بدء مفاوضات الناقورة لترسيم الحدود البحرية، واعتماد القانون الدولي في حماية الحدود والحقوق والثروة. ففي زمن الاعتراف بالحدود، وهو الأمر الذي كانت إسرائيل قد تعمدت إبقاءه مبهماً منذ قيامها، تنتفي الحاجة إلى سلاح الدويلة، كما أنه عندما يستأثر بالاهتمام أبعاد الاحتفاء الأميركي باللواء عباس إبراهيم، لم يعد مقنعاً الزعم أن السلاح خارج الشرعية حمى الحدود أو الثروة أو كرامة الناس!

مشاركة :