كنا ونحن صغار نعشق البّر بجنون، وأحلى ما لدينا حين يدعونا الأهل لطلعة بر، إذا أخبرونا ليلاً أننا سنطلع غداً للبر طار النوم من الفرح، وتقلبنا في الفراش من قلق السعادة، وانتظار الصباح، حتى يزورنا الكرى مصحوباً بهبايب البر وريح النفل والإقحوان والشيح، ونعومة طعوس الرمال، واخضرار الرياض في الصحراء، ومهابة الجبال، كنا نحب طلعات البَرّ، ولا نزال، غير أن المدن زحفت على البر، صار البر الخالي من أي لمحة للكهرباء والحالي بأضواء النجوم، بعيداً بعيداً. شوف الزهر يبعد عنا كل هوجاس ويريح عن قلب الشقا ما يكيده والبَرّ شَرّه قليل وواجدٍ خيره لا اوذي لى أحد ولا أحد فيه يوذيني وحبُّ الصحراء والبران، فطرة فينا، لأننا أبناء هذه الصحراء، عشقناها صغاراً، وعشنا في عزها كباراً، ولا نزال - على الطرقات الطوال - ننظر لها بمودة مشوبة بوجد، فنحن نراها عابرين، تمخر بنا السيارات عبابها بلا رحمة، بلا وقفة لالقاء نظرة. على أن الصحراء معشوقة على أي حال، ليس من قبل أبنائها فقط، بل يعشقها كل من زارها، وللرحالة من الغرب كلام طويل، جميل، عن روعة الصحراء، ونقاوتها، وحفلة رمالها الموسيقية، وتفتح نباتاتها البرية، وهبوب نسيمها في الأصايل، وأول الصباح، وطهارة أرضها، وعذربة ترابها، وعبق تاريخها، فللصحراء سرُّ وسحر، وهو سرُّ لا تبوح به، يحس به من رآها، ولا يعرفه، وسحر حلال يجذب الناظر إليها ويجعله - حين يرجع - عازماً على العودة إليها. أما الشعراء العرب، فقد عشقوا صحراءنا بالفصيح والشعبي، وقالوا فيها القصيد، وهي بحد ذاتها، الصحراء، قصيدة طويلة، نبيلة. يقول الصمة القشيري في صحراء نجد: «قفا ودعا نجداً ومن حلّ بالحمى وقلَّ لنجد عندنا أن يودعا بنفسي تلك الأرض ما أطيب الرُّبا وما أحسن المصطاف والمتربعا وليست عشيَّات الحمى برواجع عليك ولكن خل عينك تدمعا ولما رأيت البشر أعرض دوننا وحالت بنات الشوق يحنن نزعا بكتْ عيني اليسرى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسلبتا معا تلفتُّ نحو الحي حتى وجدتني وجعت من الإصفاء ليتاً وأخدعا وأذكر أيام الحمى ثم أنثنى على كبدي من خشية أن تصدعا فهو معلق القلب بصحراء نجد حتى إنه وهو يفارقها يفديها بنفسها ويتلفت عليها مودعاً بشوق ولوعة حتى إن رقبته تصاب بشد عضلي من شدة الالتفات لالقاء نظرة عميقة على الصحراء التي يعشقها من الأعماق، ويقول أيضاً: «أقول لصاحبي والعيش تهوي بنا بين المنيفة فالضَّمارِ تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار ألا يا حبذا نفحات نجد وريا روضه غبَّ القطار وأهلك إذ يحل الحي نجداً وانت على زمانك غير زاري شهور نيقضينا وما شعرنا بأنصاف لهن ولاسرار» حقاً، إنَّ أيام السرور قصار *** ويقول راكان بن حثلين: «أخيل يا حمزه سنا نوض بارق يغري من الظلما حناديس سودها على ديرتي رفرف لها رهش النشا وتقفاه من دهم السحايب حشودها فياحظ من ذعذع على خشمه الهوى وتنشى من أوراق الخزامى فنودها وتيمم الصمَّان إلى نشف الثرى من الطفّ، والاحادر من نفودها» ويقول محسن الهزاني يصف أرض نجد غبّ المطر: «والغياض اخصبت والرياض ارتوت والركايا أرعجت والقلّ اسفهل والحزوم أربعت والجوازي سعت والطيور أسجعت فوق زهر النفل كن وصف اختلاف الزهر في الرياض تخالف فرش زوالي تفل» ويقول الشاعر المشهور محمد بن أحمد السديري: «في وسط نجد اتبع هوى كل نسناس واطرب لشوف اطيورها وتغريده اعشق ليالي نجد لو انها ادماس وأيامها عندي جنان سعيده شمي لعشب رياضها يقعد الراس وما فات من ساعات عمري بعيده شوف الزهر يبعد عنا كل هوجاس ويريح عن قلب الشقا ما يكيده» وهي قصيدة تشخص الطبيعة وتبث فيها الحركة حتى لتمتزج معها روح الشاعر في عناق، ويقول الشاعر عبدالله بن قعيّد - رحمه الله: «والبَرّ شره قليل، وواجدٍ خيره لا اوذي على أحد، ولا أحد فيه يوذيني»
مشاركة :