ما وراء الصراع بين علماء أمريكا والبيت الأبيض

  • 10/25/2020
  • 01:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

ما الذي يجعل 81 عالما من قادة وزعماء العلم والبحث العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم أجمع يدعون إلى عدم ترشيح ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة؟ وما الذي يجبر هؤلاء العلماء الأجلاء الذين نالوا كلهم أعلى وسام شرف، فحصلوا على أعلى وأفضل جائزة علمية على وجه الأرض، وهي جائزة نوبل، فبلغوا من العلم درجة وخبرة وعمقا لم يصل إليها أحد، وقدموا للبشرية اكتشافات نادرة واختراعات مفيدة، على أن يرشحوا جو بايدن لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية؟ فقد جاء في الخطاب العام المفتوح لهؤلاء العلماء الكبار والمنشور في الثاني من سبتمبر من العام الجاري في وسائل الإعلام الأمريكية ما يأتي: «علماء أمريكا الحائزون جائزة نوبل في الفيزياء، والكيمياء، والطب يوقعون على هذا الخطاب ليعبروا عن دعمهم لنائب الرئيس السابق جو بايدن لانتخابات عام 2020 لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. فلم تكن هناك حاجة أشد في تاريخ أمتنا لقادتنا من تقدير قيمة العلم لصياغة السياسات العامة. فمن خلال التاريخ الطويل لجو بايدن في مجال الخدمة العامة فقد أبدى دائما رغبته في الاستماع إلى الخبراء، وتفهمه لقيمة التعاون في المجال البحثي على النطاق الدولي، إضافة إلى احترامه إسهام المهاجرين في الحياة الفكرية والثقافية لبلادنا. ونحن كمواطنين أمريكيين وكعلماء نصادق من أعماق قلوبنا على ترشيح جو بايدن». فلا بد أن هناك أمرا جللا يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية منذ زمن طويل بحيث ألزم هؤلاء العلماء العظام اتخاذ موقفٍ سياسي واضح لا لبس فيه من الرئيس ترامب، فهؤلاء اضطروا إلى الخروج عن النمط التاريخي العام لموقف العلم والعلماء المتمثل في تجنب الدخول في السياسة بشكلٍ علني، وعدم اتخاذ موقفٍ حازم وحاد من أحد المرشحين والدعوة إلى الامتناع عن ترشيحه. فرجال العلم يتسمون دائما بالموضوعية في أبحاثهم العلمية، والاستقلالية والمصداقية في استنتاجات دراساتهم، ولا يقحمون أو يطوعون نتائج دراساتهم لسياسات وأهواء رجال السياسة، أو النفوذ، أو المال؛ فالسياسة، كما هي معروفة لدى الجميع، متقلبة الأهواء والمزاج، ويتغير لون جلدها بين عشية وضحاها، كما أنها لا تعتمد على منهجية ثابتة تهدف إلى اكتشاف الحقائق بكل موضوعية واستقلالية، وإنما تعيش السياسة وتزدهر وتنمو على الأهواء والمصالح الشخصية الحزبية التي تهدف إلى الوصول إلى المنصب السياسي في الدولة، سواء أكان الرئيس، أو عضو في المجالس النيابية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف يمكن اتباع كل الوسائل المتاحة المشروعة وغير المشروعة، القانونية وغير القانونية، كما قال بومبيو وزير الخارجية الأمريكي عندما كان رئيسا للمخابرات في تصريح مثير جدا في 26 أبريل 2019، ولخص فيها النهج الذي يسير عليه رجال السياسة: «نحن كذبنا، نحن غششنا، نحن سرقنا». فهناك إذن تناقض واضح بين المنهجين، وهناك فرق شاسع بين الطريقين، طريق وأسلوب ومنهج العلم مقارنة بطريق وأسلوب ومنهج السياسة. وفي السنوات القليلة الماضية، وبالتحديد في عهد ترامب، هذا الفرق اتسع كثيرا، والفجوة اشتدت بدرجةٍ لا يمكن تحملها وغض الطرف عنها، حتى تم تهميش العلماء، والضرب بعرض الحائط كل آرائهم العلمية، وتجاهل خبراتهم وتجاربهم الميدانية، إضافة إلى مهاجمة العلماء، وبخاصة العلماء وأهل الاختصاص الحكوميين الذين يعملون في المراكز البحثية والأجهزة الصحية المتخصصة والذين لا يتفقون مع سياسة ترامب، وبالتحديد في قضية الأنظمة البيئية، والتغير المناخي، وحاليا وباء فيروس كورونا، وآخر مثال قوي على ذلك هو هجوم ترامب في 19 أكتوبر على أنتوني فوتشي رئيس المركز القومي للحساسية والأمراض المعدية، وأحد أبرز خبراء أمريكا، وأهم عضو في فريق عمل مكافحة كورونا، إذ قال ترامب: «إن هذا الشخص كارثة»، كما أضاف: «الناس سئموا من سماع فوتشي وجميع هؤلاء البُلَهاء»، ويقصد مسؤولي الصحة العامة. وعلاوة على ذلك فإن المجلات العلمية الواسعة الانتشار التي تحظى بمصداقية وثقة عالية بين العلماء في كل أنحاء العالم نشرت مقالات تحريرية تدين فيها غزو السياسة للعلم، وبسط رجال السياسة يدهم على القرار العلمي، إضافة إلى طرح الثقة من العلماء والاعتداء على قرارهم ونتائج أبحاثهم. فمجلة «العلم» (Science) التي تصدر منذ عام 1880، أي عمرها 140 عاما، وتتبع «الجمعية الأمريكية لتطوير العلم»، كتبتْ عدة مرات في المقالات التحريرية الافتتاحية حول التدخل المرفوض للسياسة في القرار العلمي، منها المقال المنشور في 16 أكتوبر، والتاسع من أكتوبر من العام الجاري، ومنها المقال التحريري في 18 سبتمبر تحت عنوان: «ترامب كذب على العلم»، إذ انتقد المقال تهاون الرئيس ترامب في إدارته لهذا الوباء، وامتناعه عن اتخاذ إجراءات صارمة لمنع انتشاره في عموم البلاد، إضافة إلى تهميشه الرأي العلمي المتعلق بفيروس كورونا، وتدخله في محتوى وصياغة التقارير العلمية التي تنشرها المراكز العلمية والصحية المتخصصة لكي تتوافق مع سياساته ومواقفه. كذلك مجلة «الطبيعة» (Nature) البريطانية الأسبوعية التي يبلغ عمرها 151 عاما، نشرت في 18 أكتوبر 2020 في المقال الافتتاحي دعوة إلى ترشيح بايدن، ووصفت سجل ترامب بأنه «مخجل»، إضافة إلى مجلة نيو إنجلاند للطب (The New England Journal of Medicine) التي تُعتبر من أقدم وأعرق المجلات العلمية وأكثرها مصداقية في مجال الطب ولها وزنها الثقيل بين جميع علماء العالم، والتي بدأت في الإصدار في عام 1812، أي قبل 208 سنوات، إذ جاء في مقال هيئة التحرير في 14 أكتوبر تحت عنوان: «نموت في فراغٍ قيادي» أن البيت الأبيض فشل فشلا ذريعا في إدارة كل مراحل وباء كورونا، إذ إنها «حولت الأزمة إلى كارثة»، كما ورد في المقال الافتتاحي أن «قيادتنا الحالية ضعَّفَت الثقة في العلم وفي الحكومة، وتسببت في تدمير سمعة العلم سنوات قادمة»، فالقيادة الحالية بدلا من أن تستمع لآراء الخبراء وتعتمد على نتائج البحث العلمي توجهت نحو من ليس لهم علم أو خبرة بالأمراض المعدية، وكورونا بصفةٍ خاصة، ما سهل نقل المعلومات الكاذبة والمضللة وارتفاع أعداد المصابين والموتى. كما أن مجلة «العلمي الأمريكي» (Scientific American)، التي يبلغ عمر صدورها أكثر من قرن، جاء في العدد المنشور في أكتوبر ولأول مرة أيضا في تاريخها الدعوة إلى التصويت لمرشح رئاسي بعينه هو جو بايدن، إذ أكد مقال هيئة التحرير أن: «مجلة العلمي الأمريكي لم تقم قط بالتصديق على مرشح رئاسي في تاريخها الذي بلغ 175 عاما، ونحن هذا العام مجبرون على اتخاذ هذا الموقف وبصعوبة جدا»، كما جاء في المقال: «عندما نتحدث عن إدارة أكبر أزمة صحة عامة اليوم، فقيادتنا السياسية الحالية أظهروا لنا أنهم غير أكفاء». وعلاوة على ذلك كله، فقد أصدر العلماء المسؤولون عن الأجهزة الفيدرالية غير المسيسة التي لا تتبع حزبا معينا مثل «الأكاديمية القومية للعلوم»، و«الأكاديمية القومية للطب»، بيانا مشتركا في 24 سبتمبر من العام الجاري ذكروا فيه: «عملنا كمستشارين للأمة في جميع الأمور المتعلقة بالعلم، والطب، والصحة العامة، يُجبرنا على تأكيد أهمية اتخاذ القرار المبنى على العلم في جميع المستويات الحكومية». فمن الواضح إذن أن جُل علماء أمريكا المشهود لهم بالعلم والخبرة، وجودة البحث العلمي، قد أدلوا بشهادتهم ضد البيت الأبيض، وترامب بالتحديد. bncftpw@batelco.com.bh

مشاركة :