الحب قد يحوّل شخصا مسالما إلى مجرم | هيثم حسين

  • 10/25/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

للحكم على فعل ما بأنه أخلاقي أو لا يجب أن ندرسه في إطاره وبيئته وظروفه، فأشنع الأفعال وأكثرها سوءا مثل الجريمة قد يغدو فعلا عاديا أو أخلاقيا إذا تغيرت الظروف، مثل من يقتل لحماية وطنه أو عائلته أو نفسه وغيرها من الأطر. لكن يبقى الأمر محط جدل، إذا قرأناه من أكثر من زاوية كما فعل الروائي الإنجليزي جون غرين وود في عمله الروائي المثير “قرار قاتل”. يثير الإنجليزي جون غرين وود (1921 – 1986) في روايته “قرار قاتل” أسئلة عن التضحية والمغامرة والجنون الذي قد يقيد المرء أو يفتح له مجالا للإقدام على أفعال قاتلة واتخاذ قرارات جنونية بذريعة الأبوة والبنوة، وتحت شعار الحب والتفاني والإخلاص الأبوي، وما إن كان بإمكان المرء أن يسرق ويقتل ويرتكب الجرائم بحجة أنّه يحمي ابنه من القتل، أو لاستعادة الابن الذي اتخذ رهينة وأداة للضغط ووسيلة للإرهاب والابتزاز. جرائم وأعذار يتحدث جون غرين وود – وهو الاسم المستعار لجون بوكستون هيلتون – عن التحول الذي يجتاح الإنسان عند منعطف حاد من منعطفات حياته، وكيف أن ذلك التحول قد يخرجه من طور إلى آخر، وقد يحوّله من إنسان بسيط إلى مجرم محترف، يطور أساليبه في الإجرام، ويتفوق على أعتى المجرمين، حيث يكون دافعه قوياً، وقناعه مقنعاً، لا يبدو كمجرم، بل يظهر كضحية مضطرة على تنفيذ إملاءات مجرمين آخرين لإنقاذ ابنه المخطوف. من الأسئلة التي تحضر في سياق الرواية، هل يحوّل حب الأب لابنه المرء إلى قاتل؟ كيف يتم تبرير الجرائم بدافع الحب؟ كيف يمكن للإنسان أن يتحوّل إلى مجرم من دون أن يحاول إنقاذ نفسه من براثن وحش الجريمة الذي يغرقه ويسير به نحو الهاوية؟ إلى أي حد يكون التحول إلى الإجرام مبرراً بتبريرات الحب والإخلاص والحرص والإنقاذ؟ وهل حقاً يمكن للمرء أن يفعل أي شيء لينقذ مَن يحب؟ وكيف سيكمل حياته بعد ذلك؟ هل سيزعم أن شيئاً لم يحدث وأن الجرائم التي اقترفها كانت كوابيس انجلت وتبددت؟ الرواية، الصادرة بترجمة لميس حيدر إسماعيل عن منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب بدمشق، تنتمي إلى الأدب البوليسي، وفيها تخطف عصابة تومي ابن بطل الراوية شيلدون وتطالب الأب بارتكاب جرائم مقابل عدم قتل ولده فتدفعه للسرقة والقتل ولأشياء خطيرة تدل على استعداد الأب لارتكاب أي جريمة مقابل حياة ولده. ويحكي عن إمكانية اختلاق أعذار للجرائم، وحالة المرء في رحلة التحول التي تبقيه غريباً عن نفسه وواقعه، كيف تسكنه الظنون والتخمينات التي تقترب من التأكيدات أنه سيعود لحياته الطبيعية المعتادة بعد أن تنجلي الغمة، في حين أن الواقع يثبت عكس ذلك، وأن دوامة الإجرام تتحول إلى ورطة ومتاهة رمال متحركة تسحبه إلى القاع أكثر فأكثر. يتلقى شيلدون اتصالات غامضة من خاطف ابنه تومي، يطالبه الخاطف بالإقدام على ارتكاب بعض الجرائم، وذلك حتى يعيد إليه ولده، فينساق شيلدون وراء الابتزاز ويرضخ له، يقوم بإيداع مبلغ من المال المسروق في أحد البنوك، ثم يقتحم مكتب محاماة ويسرق بعض الملفات منه، ويمضي بطريق الإجرام الذي يوضع فيه ويجبر على خوض غماره، وينتهي به المطاف ليقتل شخصاً بريئاً اسمه سورينسون دوغلاس. يشير الروائي إلى الخيارات القاسية التي يجد بطله نفسه محاصراً بها، كأن يصبح مجرماً وقاتلاً ويقضي على شخص بريء من أجل استعادة ابنه، أو أن يصله ابنه جثة هامدة، وهنا يكون الصراع الشرس الذي يدمر حياته ويخرجه من طور لآخر، ويبعده عن ذاته، في حين يظن أنّه يضحي لينقذ ابنه من القتل. يصف حالة الشعور بتأنيب الضمير، وكيف أن هذا الشعور يتحول إلى ضاغط قاهر على شيلدون الذي يغترب عن نفسه، وينسلخ عن كينونته، ويتحول إلى مجرم وقاتل بدافع الحب لابنه والتضحية في سبيل إنقاذه، ويصبح تأنيب الضمير محنة متجددة له على الرغم من محاولاته تبرير ما اقترفه تحت وطأة الوحشية التي يعامله بها خاطف ابنه تومي. يغمض عينيه ويحاول أن يتخيل أن ابنه تومي بخير، ويتذكر أنه يقال بأنه كلما طالت فترة فقدانك لشخص ما، قلّت فرص إيجادك له، ويتساءل لماذا يقحم شخص نفسه في كل تلك المشاكل ليأخذ تومي ليؤذيه فقط، ويؤكد لنفسه أنه ليس لديه أو لدى تومي أعداء، ولا يعتقد أنه تشاجر مع أحد أو أي شيء من هذا القبيل. ينوّه الروائي إلى أن بطله لم يفكر قط قبل ذلك أن شيئاً سيجعله يشعر أن الحياة فقدت طعمها، لكن غياب ابنه تومي ووجوده في مكان مجهول جعلاه يشعر بذلك. يشعر كما لو أن الحياة ليس لها أي معنى إلا باستعادة تومي. لا يدري إلى متى يمكنهم تحمل ذلك، يظن أنه يرتدي الملابس نفسها لأيام، ولا يتذكر في أي يوم هو بالضبط، يبدو له وكأن العالم توقف. يؤكد الخاطف لشيلدون بأنه سيفعل ما يطلبه منه، سيعطيه كل ما يريده، وأن لديه عدة أعمال بسيطة له، بحسب تعبيره، وبعدها سيعطيه ابنه، ويقول له إنه يعده، وإن كلمة الرجل هي أغلى ما لديه، ويحكي ذلك بشيء من الاستخفاف والسخرية. يستعيد شيلدون بعض الأفكار المتراكمة لديه من متابعة الأفلام وقراءة الكتب، يفكر كيف أن الشرطة تكرر أنها لا تتفاوض مع خاطف الرهائن أبداً، لكنه يتساءل إن كانت ستتصرف بطريقة مختلفة لو كان طفل أحدهم هو الرهينة. يخفي شيلدون أمر تواصل الخاطف معه حرصاً عليه وعلى ابنه، ويبرر لنفسه أنه سيقوم بتأدية المهام التي يطلبها منه الخاطف وسينتهي به الأمر لاستعادة ابنه، وسيسير كل شيء بشكل جيد، ولن يضطر إلى فقدان ابنه، ويجد نفسه قادراً على النوم بالرغم مما أقدم عليه من جرائم. لا تتعلق المسألة بانقشاع غمامة الألغاز، حيث أن الخاطف يكون موظفاً سابقاً طرده شيلدون من العمل، ومعه عصابة لسرقة الأموال، واختلف مع بعض أفرادها، فأمر شيلدون أن يقتله، وكان سورينسون بدوره شريكاً في الإجرام الذي انقلب عليه، وبدا كسهم حارق يعود إليه ليفتك به. يختار وود غرين لروايته نهاية سعيدة، تبدو درامية قريبة مما يريد القارئ، حيث ينتهي اللغز بانتحار المجرم وإلقائه اللوم على شركة شيلدون في ذلك، وتخصيص شيلدون وقته وحياته من أجل مساعدة الآخرين، والسعي ألا يفسد أحد حيوات الناس الأبرياء بعد ذلك، ويحرص على أن يكون متفانياً في مهمته التي ينذر نفسها لها، ويستقي من تجربته المريرة التي تنتهي بعودة ابنه سالماً، دروساً حياتية قيمة، ويؤكد أنه سيلتزم بوعده أن يكون موجوداً لمساعدة الآخرين. لعلّ ما يلفت في الرواية، هو معالجة الروائي لتصور المرء أن حياته أو حياة ابنه أو عائلته قد تكون أهم من حيوات أناس آخرين أبرياء، وأن إنقاذ أحد أفراد أسرته يبرر له جريمة قتل آخرين، وفكرة الشعور بقيمة الحياة له ولأسرته وسلب تلك القيمة من الآخرين الذين لا يعرفهم، وكأنهم غير موجودين، وأن حياتهم لا تحظى بأي أهمية، وكأنّ معيار الأهمية ومقياس التقييم يعتمدان على منظوره للقيمة والتصور والتقدير، لا على الفكرة الأشمل المتعلقة بقيمة الحياة الإنسانية للجميع، من دون أي تفضيل أو قناع.

مشاركة :