صدر كتاب (المسرحيات القصيرة في المسرح المصري ) للدكتور نبيل بهجت، رئيس قسم المسرح بكلية الآداب – جامعة حلوان، ويضم الكتاب عددًا من الدراسات تمثل 44 نصا مسرحيا قصيرةً لكل من: “بديع خيري” و”يوسف وهبي” و”أبو السعود الإبياري“. وهي نصوصٌ مسرحيةٌ مجهولة لعدد من رواد المسرح العربي، ونشروها في عدد من الدوريات المختلفة ولم ينتبه إليها مؤرخو الأدب وناقديه. ويعد الكتاب هو الثاني في إطار مشروع لدراسة ونشر المسرحيات القصيرة؛ حيث نشر المؤلف كتاباً ضمن منشورات الهيئة العربية للمسرح بعنوان” ” تناقضات الخطاب والنص “، ضم 49 نصًا قصيرًا لكتّابٍ مختلفين. وبداية: فإن هناك فرق بين المسرح والجريدة – كوسيلتي عرض، فالأول: يختاره المتلقى مستسلماً إلى سلطته، أما الثانية: فتسعى إلى فرض هذه السلطة من جانبها ، لذا فهي تلتمس وسائل متعددةً لجذب المتلقي، أولها: يتعلق بالعنوان الذي يجب أن يكون لافتاً لانتباه القارئ بشكل يطرح داخله العديد من التساؤلات التي تجبره على التوقف لقراءة النص؛ لتحليل شفرات هذا العنوان. نشر يوسف وهبي مسرحيات: بدون كلام والكافر والقدر ومحكمة الستات وعلى فكرة والقربان ومكره أخاك وأيها القاتل تمهل وعلى مسرح الحياة وعدة شغل والموعد. معتمداً على عناوين وصورٍ تمثيليةٍ كعناصر أساسية تسهم في خلق التشويق، وقدم من خلال هذه المسرحيَّات عددًا من الأنواع الدرامية المختلفة، منها: الميلودراما والكوميديا والمونودراما، كما كتب مسرحيَّة واحدةً دون حوار يمكن أن نعدها شكلاً أوَّليًّا لمسرح الصورة. وتتشابه حبكة ميلودراميَّاته المنشورة في الدوريات، حيث تدور في إطار الأسرة الواحدة، واعتمدت بشكل أساسي على المبالغات والمصادفات للتأثير على الجمهور، ودائمًا ما يدور الصراع فيها بين العاطفة والواجب، ويُعلِي “وهبي” من مصلحة الجماعة بانتصاره للواجب ليتخلص الإنسان من فرديته وأنانيته ولو ضحَّى بأغلى ما يمتلك، وكانت السخرية من الميلودراما بنْية أساسية في معظم هذه الأعمال، واعتمد وهبي على الثنائيات الضدية والنمطية في صياغة شخصيَّات الميلودراما، وكذلك جاء الحوار ليجسد المبالغات ويؤكِّد الحكمة والموعظة التي أراد أن يستخلصها من العمل، كما لعبت الإرشادات دورًا هامًّا حيث حملت إلينا وصف المشهد وقدمت الحالات المختلفة للشخصيَّات بشكل يكشف عن إدراك وهبي أهميتها، ونشر وهبي ثلاث مسرحيَّات كوميدية هي “على فكرة” و”محكمة الستات” و”عدة الشغل”، واعتمدت حبكة هذه المسرحيَّات على القلب والتعارض والمفارقة، وتأتي نهاية الصراع في هذه المسرحيَّات بالتوفيق بين العناصر المتضاربة والمتناقضة، كذلك اعتمد وهبي في تلك المسرحيَّات على شخصيَّات مثلت نموذجًا لمضحك الطباع. وكتب وهبي مسرحيَّة واحدة من نوع المونودراما، تأثر فيها بشكل واضح بالمنهج الملحمي، سواء في تكوين خشبة المسرح أو في اعتماده على الأساليب المختلفة التي من شأنها إحداث التغريب، واعتمد في ذلك على الأساليب الإنشائية والتقريرية والمباشرة ومناقشة الجمهور والنهايات المفتوحة، ولقد تجاوز وهبي أشكال الكتابة السائدة ووجَّه من خلال تلك المسرحيَّات نقدًا مباشرًا لبعض تلك الأشكال، وحاول أن يقدِّم أشكالاً مختلفة ومغايرة عما هو مألوف، مثلما فعل في “بدون كلام” حيث قدم شكلاً بدائيًّا لمسرح الصورة، وتأثر في “على مسرح الحياة” بالمنهج الملحمي، وربما كانت هذه المسرحيَّة واحدة من أوائل المسرحيَّات التي اعتمدت على هذا الأسلوب. أما عن أبو السعود الإبياري فلقد نشر عدداً من أعماله الدرامية في العديد من المجلات تحت عناوين مختلفة منها: مسرحية فكاهية، وقصة فكاهية، وقصة مصرية وفكاهة مصرية وفكاهة محزنة، ومسرحية مصرية ذات فصل واحد ومنظر واحد، وتمثيلية من فصل واحد. وبالرغم من الاختلاف اللفظي الواضح في محاولاته الخاصة لتصنيف ما كتبه آنذاك، إلا أنها جميعا جاءت كأعمال مسرحيةٍ قصيرةٍ، وتتشابه الملامح العامة لهذا اللون إلى حد كبير، فجميعها التزم الشكل المسرحي، من حيث: الاعتماد على الحوار كأداة أساسية، وتبدأ الأحداث بإشارة إلى رفع الستار، ووصف المنظر، وتختم بلفظ ستار أو ستار سريع، وفرض اعتماد هذا اللون على الجريدة كوسيلة عرض بعض الأساليب التي تضمن لها التأثير على المتلقي. ولجأ الإبياري لعدد من الوسائل لتحقيق هذا الهدف، منها: الجمع بين المتناقضات في هذه العناوين مثل: ” أخ للإيجار ” و “مدموازيل جاموسة” و ” موعد مع الصدفة” و “ترفيه مؤبد”، فالأخوة تتعارض مع الإيجار، والمدموازيل تتعارض مع الجاموسة، والموعد يتعارض مع الصدفة، والترفيه يتعارض مع المؤبد. ومثل هذه العناوين من شأنها إثارة ذهن المتلقي، وحثه على القراءة؛ لمحاولة فهم العلاقة بين هذه التناقضات، وعمد الإبياري إلى بعض العبارات الشعبية فجعلها عنواناً لدرامياته، مثل: ” فرحة ما تمت ” ، و ” عريس الهنا”و ” وش تعب “، كماعتمد أيضاً على بعض العبارات المألوفة التي يكررها الناس بشكل تقريري في بعض المواقف، ليربط بين خبرة المتلقي والنص، من ذلك: “غلط في الحساب” و “النمرة غلط” و”رد شرف” و”نيرون يحرق روما”. ولجأ أيضاً إلى العناوين الموحية، مثل: ” ليلة الدخلة ” و “لوكاندة السعادة، ليثير بها فضول البعض، وأحياناً كان يكتفي بجعل العنوان مقدمة للنص، مثل “امسك ناظر وقف”، و”المرأة دائماً” و ” أراجوز ومؤلف وفكرة “، وفي جميع الأحوال كان يحرص على إيجاد علاقة تفاعلية بين النص والعنوان لتحقيق المصداقية مع القارئ. وإضافة إلى العناوين اعتمد الإبياري أيضاً على الصور كبديل لخشبة المسرح ولتحفيز المتلقي على تفسير ما تحمله الصور بالقراءة. وقد تنقل لنا الصورة أكثر المواقف إثارة كالاهتمام بالموضوعات العامة: ونقد المجتمع، والتقريرية والمباشرة، والإرشادات المسرحية. وقدم الكتاب نصوص بديع خيري: كشكش عضو في البرلمان، وكشكش ليلة الفرح، وفاطمة وماري وراشيل، وجت سليمة، واللي يخاف منه، وقلوب حسب الطلب، واللص الكبير، والغريم، وصديق للإيجار، وملاك جهنم، وأصابع القرد، والسكوت من دهب، والعصر الحديث، وخدم وأسياد، وحارة سيبويه، وتجربة، والعاقل. يتناول الكتاب قضية ” التأليف المشترك ” بين نجيب الريحاني وبديع خيري كمدخل لقراءة إبداع بديع خيري، ووصل الكاتب إلى أنه ليس هناك مانع من أن يقترح الريحاني على بديع فكرة مسرحية معينة أو يعطيه اسم مسرحية أجنبية لو اقتبسها بديع فستحقق أرباحاً هائلة، فالمطلوب تفصيل العمل على الفرقة، ولذلك فلا مانع من أن يقترح نجيب .. ولكن الذي يمسك بالقلم ويكتب هو بديع. وهذا ما ذهب إليه ” يوسف حلمي ” وهو ناقد عاصر الحركة الفنية لمسرح الريحاني منذ بدايتها تقريباً، واحتك بالوسط المسرحي احتكاكاً مباشراً حيث عمل محرراً للصفحة الفنية في جريدة كوكب الشرق التي كان يرأس تحريرها د. طه حسين، ويقول يوسف حلمي: “ولكنني أود أن أقول بأنني أعتقد أن دور نجيب الريحاني في كتاباتها لم يكن إلا وضع اللمسات الدقيقة هنا وهناك حسب ما اكتسب من خبرة أربعين عامًا من الاحتكاك بجماهير المسرح، أما الأساس والبناء الكلي فكان من نصيب بديع خيري الشاعر الموهوب والفنان الكبير المتوارى دائماً خجلاً وتواضعاً وراء العبقريتين الكبيرتين: سيد درويش ونجيب الريحاني. وقد أكد هذا الرأي الناقد ” محمد شكري ” في مقاله عن تاريخ المسرح عندما أقر أن يديع خيري هو مؤلف فرقة الريحاني، كما أكده لنا بديع خيري في وصيته الأخيرة للناقد محمد على حمادة. أما عن دور نجيب الريحاني في هذه المسرحيات، فيقول ” محمد علي حماده “: “وفهمت من الحديث الذي دار بيننا تعقيباً على ذلك بأن دور الريحاني لم يكن يعدو اقتراح بعض الإضافات أو الاختصار هنا أو هناك، وكان كرجل مسرح يزن كل عيارة وكل لفظ، ويردده فيما بينه وبين نفسه، كأنما يلقيه على المسرح وأمام الجمهور، وبعبقريته الفذة وإحساسه المسرحي العميق كان يقترح على زميله وصديقه بديع ما يراه في هذه النواحي، ثم يكتب بديع المسرحية من أول كلمة إلى آخر كلمة دون أن يخط الريحاني أو يملي حرفاً فيها. أما ما منع بديع خيري عن التصريح بهذه الحقيقة في حياته وجعله يتركها وصية تُذكر بعد موته فهو وفاؤه الشديد لنجيب الريحاني، وخوفه من أن يكون رده في هذا مساس من قريب أو بعيد بصديق عمره ورفيق حياته، وهذا ما أكده لنا ناقد معاصر في مقاله: “المؤلفون المسرحيون وكيف يكتبون رواياتهم” عندما قال عن بديع خيري: ” الأستاذ بديع خيري، هو رجل كتوم شديد الحياء، محال أن تعرف منه شيئاً عن طريقته في كتابة رواياته”. وأخيرًا.. قدم الكتاب صورة جديدة لثلاثة من رواد المسرح المصري، وعرضنا إبداعًا لم تمتد له يد من قبل بالدراسة، وهو ما يفتح أفق الدراسة والبحث للتعرف على وجوه مختلفة وجديدة للمسرح المصري
مشاركة :