لم تكن إسهامات المثقف التنويري البارز حسين فوزي (1900-1988) بالغزارة التي اشتهر بها مجايلوه وأقرانه من أعلام الكتاب والمفكرين المصريين والعرب في القرن العشرين؛ ولكنه استطاع أن يقدم كتباً وأعمالاً لا تشبه غيرها. عودة «السندباديات» وِفق هذا التصور يمكن قراءة سلسلة «سندبادياته» الملهمة؛ التي تضطلع هيئة قصور الثقافة المصرية، وبالتحديد من خلال سلسلتها الممتازة «ذاكرة الكتابة»، بإعادة نشرها وتوفيرها في طبعاتٍ جديدة، بعد مرور ما يقرب من العقود الثلاثة على صدور آخر طبعاتها عن دار المعارف المصرية. وتضم سلسلة «سندباديات» التي يرأس تحريرها المؤرخ والأكاديمي أحمد زكريا الشلق، الكتبَ السبعة التي استعار فيها المثقف الموسوعي حسين فوزي قناع «السندباد»، كي يقوم بجولاته البانورامية في الزمان والمكان، في البر والبحر، في التاريخ القديم والراهن المعاصر؛ وجاءت هذه الكتب كالتالي -مرتبة زمنياً حسب أسبقية الصدور في طبعاتها الأولى: «سندباد عصري ـ جولات في رحاب المحيط الهندي»، و«حديث السندباد القديم»، و«سندباد إلى الغرب»، ثم كتابه الأهم الذي حاز شهرة كبيرة «سندباد مصري ـ جولات في رحاب التاريخ»، و«سندباد في سيارة»، و«سندباد إلى العالم الجديد»، واختتم هذه السلسلة الفريدة في ثقافتنا المعاصرة بسيرته الذاتية الممتعة «سندباد في رحلة الحياة»، وهي واحدة من أهم السير الذاتية المعاصرة لم تنل ما تستحقه من قراءة وتحليل! اتكأ حسين فوزي طيلة حياته العلمية والفكرية على قناع أسطوري اكتشفه في التراث العربي، ووظفه بمهارة عالية، لتمثيل شغفه بالعلم، وتوقه إلى رحلات البحر، وإمعانه في كشف أسرار عجائبه ومخلوقاته في عصر الأنوار الإنسانية. عبدالله البحري وقصة السندباد، كما يرى حسين فوزي، هي القصة البحرية الكبرى في الأدب العربي طبقاً لألف ليلة وليلة، وهي فوق هذا واحدة من أهم قصص البحار في آداب العالم، ولو لم يحتوِ كتاب ألف ليلة وليلة على قصة عبدالله البري وعبدالله البحري، لكانت قصة السندباد هي القصة البحرية الكاملة الوحيدة في اللغة العربية، بيد أن البحر في قصة عبدالله كان وسيلة إلى غاية هي العرض الفلسفي، أما «البحر» في قصة السندباد، فهو الغاية التي تنتهي إليها القصة، «البحر» هو بطلها، أو هي على حد تعبيره حوار بين اثنين: البحر والسندباد. البحر الشرقي الكبير وقد بذل حسين فوزي جهداً علميّاً فائقاً في كتابه «حديث السندباد القديم» (1943) لتأصيل رحلات السندباد، طبقاً للمعارف الجغرافية، وكتب العجائب السابقة عليه في الثقافة العربية، ليثبت أن من قام بتأليفه على هذه الصورة المكتملة ينتمي إلى هذه الثقافة الغنية، إذ يتبين له من مجموع النصوص، التي اختبرها أن صاحب القصة قد ألفها وفي ذهنه صورة جغرافية للبحر الشرقي الكبير (المحيط الهندي)، إن لم تكن شديدة الوضوح، فهي ليست أكثر إبهاماً من الصورة التي تنطبع في أذهاننا من مطالعة كتب الرحلات والعجائب والمسالك والممالك. وقد انتهى حسين فوزي في جهده التوثيقي المقارن إلى أن قصة السندباد البحري؛ وهي نموذج لبقية قصص «ألف ليلة وليلة»، عربية مستحدثة، لا يرجع تأليفها إلى ما قبل القرن الحادي عشر الميلادي، وأسلوبها ولغتها الدارجة -كما تبدو في النصوص المنشورة- قد تنزل بتأليفها إلى القرن الرابع عشر أو بعد ذلك، وليست مترجمة عن أصول هندية أو فارسية، ولا يستبعد أن يكون مؤلفها مصرياً، أو على الأقل عارفاً باللهجة القاهرية في تلك الحقبة، كما تداولتها المؤلفات الشعبية الأخرى.
مشاركة :