القهوة.. أخت الوقت وطاردة الحزن !

  • 10/29/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

وصفها الشعراء بـ «أخت الوقت» ونعتها المتصوفون بـ «خمرة الصالحين»، حتى أن المتصوّفة كانوا يصفونها لمريديهم إذا أرادوا غسل همومهم وتفريح قلوبهم، بل رُوِيَ عن أحدهم أنه قال: «القبض على البُنِّ يُذهب الحُزن»، وفي مقابل هذا الدفق من المديح، جاء الأمر المانع والذمّ القاطع من بعض الفقهاء المتشدّدين الذين أشاعوا بأنها مُغيّبةٌ للذهن ومُفْسِدةٌ للبدن! ووسط هذا الحشد التوصيفي والجدليّ الممتد عبر أقانيم التاريخ والجغرافيا والفقه والفن والأدب، استطاعت الحبيبات السحرية للبنّ أن تصمد، وتتّسع، وتوغل بتأثيرها المنعش في الأمزجة والخيالات والثقافات، مانحة «القهوة» ومنذ 500 عام، كيانها الاعتباريّ، وحضورها الشرعي على الموائد، وفي الزوايا الحميمية للمقاهي، ولدى الساهرين في جلسات الأنس، وصولاً للقائمين بالليل من الزهّاد والنُّسّاك وأهل السماء. صاغت «القهوة» حضورها وتأثيرها العميق والآسر في الثقافة الإماراتية منذ أزمان بعيدة، بعد تخطّيها لأسفار جغرافية وأنثروبولوجية جامحة وصعبة، انطلاقاً من غابات الحبشة (إثيوبيا والصومال)، وصولاً إلى جبال اليمن، مروراً بالحجاز، حتى وجدت لها موطئ قدم في الحواضر الساحلية بالإمارات، ومنها انتقلت إلى البادية والمناطق الداخلية، حيث طغى سحرها على نفوس وطقوس السالكين للدروب اللامرئية في الصحراء، فكانت القهوة رفيقة البدو في حلّهم وترحالهم، وكان ارتباطها بأغراض الشعر النبطي الإماراتي ومواضيعه، هو الارتباط الوثيق، النابع من علاقة وجدانية، وممارسة يومية، واقتران أصيل بالمعاني الملموسة، والمُجسّدة لمضامين الكرم، والضيافة، ومداراة السأم في الليالي الموحشة والطويلة. من غالي البنّ فنجالي يقول الشاعر الشعبي الإماراتي حمد بن حمدان بالأسود، وهو يستعيد ذكرياته البعيدة مع انشغالات القهوة والتفرّغ لها: «إن نالني عقب السهر واصب ‏‏‏ دنّيت لي من غالي البنّ فنجالي أراعي قليته عن نيّته واحتراقه على ‏‏‏نار من حطب السّمر ميهالي ولي خبرة في صنعها منذ الصّبا ‏‏‏من بعد فوحتها لها ثلثها هالي وأسمّر مع الفنجان على نايفٍ علا ‏‏‏على رأس عرقٍ طويلٍ نايفٍ عالي ولا حدّني فيما أعمل قلّة العمل ‏‏‏ولا حدّني فقرا ولا قلة المالي قنوع من الدنيا ولا شلت همّها ‏‏‏ولا همّني من المال درهم ولا ريالي» وهذه القصيدة العفوية الواصفة بدقة للمناخ الروحي والمزاج العاطفي والشغل اليدوي المرهف المرتبط بإعداد القهوة المحليّة، نقلتها لنا الباحثة «غاية خلفان الظاهري» في كتابها: «صوت الرّشاد» وهو كتاب مبهر بتصاويره ومضامينه، لأنه يتقصّى بدقة وشغف تاريخ ظهور القهوة في المنطقة، ويقدّم شرحاً وافياً لمراحل تطورها وتحولاتها لدى ثقافات وشعوب العالم، وصولاً إلى الإمارات، وأسباب اكتسابها الصيت الطاغي والحضور الراسخ في الذاكرة التراثية المحلية، وفي المشهدين الاجتماعي والثقافي بالمكان، موضحة في الكتاب أن القهوة الإماراتية اكتسبت هويتها الخاصة من خلال خبرات عديدة ومتراكمة، حتى أصبحت سيّدة الموائد، وراعية الأشعار والقصص، وعنوان الألفة والحميمية والدفء وجلسات السمر النابعة من النوستالجيا الجمعية، والفارضة لسطوتها في مقاهي المدن الحديثة بالدولة، حتى وإن تغيّرت أصناف القهوة ومسمّياتها في وقتنا الراهن. القهوة والوهج الشعري وفي القصيدة أعلاه نستشفّ الوهج الشعري الذاتي المتآلف مع طقوس إعداد القهوة، وكيفية تأثيرها على مفردات الشاعر بتراتبية عجيبة، تيْنع فيها التفاصيل، وتشتبك فيها معالم القهوة وتبدلاتها مع معالم المكان ومع التأملات الموحية التي يختمها الشاعر هنا بنظرة حكيمة تستدعي ثمار التواضع والقناعة، وتجاوز هموم الدنيا بعدم الانشغال المفرط بها، فهي مقيمة في الظن والخضوع لخدعة دوامها، ولكنها زائلة في الانتباه لها، في المقاربة الشاملة لأحوالها وتقلّباتها. مرويات وملامح وقد أسّست «القهوة» للمزاج الثقافي بالإمارات، من خلال رافدين رئيسيين، يتدفق أحدهما من الماضي بما يحتويه من مرويات وملامح طفولة مترسّبة في أرض الخيالات الذاتية، والرافد الثاني يصبّ في الواقع المعاصر، المديني، والعمراني، الذي كان أحد تمظهراته اللافتة منتمياً بقوة لمشهدية «المقهى»، وهي مشهدية يمكن أن تقودنا نحو تشكيلات ومعابر وتفرّعات افتراضية وأخرى مجسّمة، تتوزع بين الجلسات الجماعية للمثقفين، وبين العزلة الاختيارية للمبدع. فهذا النوع الخاص من العزلات يجمع بين هامش الضجيج، وبين متن الصمت، ويقع في المنطقة الواقعة تماماً بين الاتصال والانفصال، وكان لهذه الحالة الخاصة من الفردانية المتماهية مع الجموع، والتي يوفّرها المقهى بامتياز، دور مهم في توليد شرارة الإلهام، وترويض التأملات، واستشعار المنافذ الممهدة لظهور الدواوين الشعرية، والمجموعات القصصية، والروايات، حتى إنها تنطوي على التخطيطات المبكّرة للأعمال التشكيلية، وملامح الدقائق الأولى في سيناريوهات الأفلام، والكتابات المسرحية. كان المقهى وما زال بالنسبة للكثير من المبدعين في الإمارات، منصة انطلاق نحو مشاريع فنية وفكرية ونقدية وجمالية، بدأت مع فنجان قهوة وورقة بيضاء أو شاشة فارغة، وانتهت بأعمال مدهشة، مطبوعة في متون الكتب، ومرئية في صالات السينما، ومُجسّدة على خشبات المسرح. وفي الجهة المقابلة، فإن الجلسات الجماعية للمثقفين الإماراتيين ومعهم المثقفون العرب والأجانب المقيمون، ساهمت دون شك في خلق نقاشات فنية وأدبية وفلسفية حافلة بوجهات النظر المختلفة، التي يكون فيها تنوّع الآراء، شكلاً أصيلاً من أشكال الجدل الخلّاق، من أجل تدوير الزوايا الثقافية، واستثمار العصف الذهني، واستجلاء الوعي المغاير لدى الآخر. الميتافوريا الثقافية لقد تحوّل المقهى في الأزمنة الحديثة -وبشكل تدريجي- إلى ما يشبه البرلمان الثقافي الحاضن للرؤى والاقتراحات والإضاءات المعرفية المختلفة، وكانت «القهوة» هي أصل النشوة المحتدمة في دواخل المبدع الإماراتي، سواء فيما يتعلّق ببدايات ظهور فن السرد بشقيه الشفهي والتوثيقي، أو ما يتعلّق بالإغواء الشعري الذي منحنا رصيداً هائلاً من القصائد النبطية والفصيحة المرتحلة عبر الزمن، وصولاً إلى الواقع الجديد الذي أصبحت فيه صورة المقهى، أشبه بالميتافوريا الثقافية الناجزة، كما أن ملمس كوب القهوة بين يدي الشاعر صار هو الآخر أمثولة للذوبان في القصيدة، والاستئناس بالكلمات الملتذّة بعتمتها وغموضها وسوادها الشفيف. الكينونة الملهمة وتجسّد القيمة الجمالية للقهوة في النتاجات الأدبية والفنية للمبدعين الإماراتيين، ضمن ملامسات نصيّة وتعبيرية مزجت بين الرصد الخارجي والحدس الداخلي، ودمجت أصداء الزمان مع تجليّات المكان، ليلتحم الأثر القديم للذاكرة الشعبية بصيغتها المشتركة، مع الأثر الحديث لتفسير الوجود بصيغته الفردية، فحضرت القهوة بمرادفاتها المتنوعة في الثقافة الإماراتية، باعتبارها الكينونة الملهمة للحواس، والثيمة الدالة على تمارين الخلوة، واستجلاب أحلام اليقظة، واجتراح السهر، وتتبع الرائحة المأهولة بالسحر، إنها الرائحة التي يصفها الشاعر محمود درويش قائلاً: «رائحة القهوة، عودة وإعادة إلى الشيء الأول، لأنها تنحدر من سلالة المكان الأول، هي رحلة بدأت من آلاف السنين، وما زالت تعود، القهوة مكان، وانفصال يُوحّد ما لا يتوحّد، صباح مولود من مذاق مرّ، القهوة جغرافيا».

مشاركة :