كُل مرّة يصطدم سعد الحريري بمسؤولي الفواتير والأسعار السياسية والطائفية في لبنان. لكنه يتغلب عليها بالمُحاصصة تارةً، وتارةً أخرى بلي الذراع. يُطالب كل زعيمٍ سياسي من معقله بحقيبةٍ وزارية بعينها. لا يقبل التنازل عنها. كما حركة أمل وزعيمها نبيه بري، الذي لم ولن يتخل عن وزارة المال، بعلي حسن خليل أم بغيره. هذه الوزارة تحديداً دفعت سعد الحريري الأسبوع المنصرم للقول "تجرّعت السمّ من جديد"، بعد موافقته مُجبراً على تسمية وزير المالية من الطائفة الشيعية التي تتبع لها حركة أمل. في ظاهر القصة أمرٌ يتمحور حول إشاراتٍ لمنع عرقلةٍ ما، تقوم على مُحاصصةٍ مُعينة وتقاسم حقائب وزارية. وفي باطن الأمر ألف قول وقول. ربما لن يجرؤ الحريري على ذكر الأسباب، وإلا ذهب في طريق والده. بعد عودة سعد الحريري ودخوله على الخط الحكومي عقب أن هرب منه بمحض إرادته، أنا على يقين أنه يؤمن أن لبنان يُعاني من أفعى سامة وقاتلة برأسين. الرأس الأول يمثله جبران باسيل زعيم التيار الوطني الحر، صهر رئيس الجمهورية الموقر. والثاني تمثله ميليشيا حزب الله. ولكل من الاثنين أهداف وطموحات، يُقابلها مخاوف، وللاثنين أيضاً المساحة المناسبة في الحكومة التي يرأسها الحريري أو غيره، للمناورة السياسية، وتمرير مقياس الثقل الذي بلغه الطرفان في الشارع اللبناني وفي صناعة القرار، ولاستعراض العضلات عبر العرقلة وتجميد الدولة وإحالتها إلى الوفاة. ولتشريح الحالة السياسية التي يجسدها رأسا الأفعى، فالأمر يتطلب الدخول في عمق الحالتين. مبدئياً عليّ أن أُشرّح الشخصية السياسية التي يختبئ باسيل خلفها، وما تشكل له في السياسة اللبنانية، باعتباره يُمثل أبرز الطامحين والمُعرقلين. فهو وفق المفهوم الأخلاقي اللبناني – بصرف النظر عن كونه زعيم تيار سياسي، ذا شخصية بُرجوازية، رسمت حولها هالة ارستقراطية، على الرغم من تدني مستوى الطبقة الاجتماعية التي قدم منها، وتتصف تلك الشخصية بالتهور وتدني الخبرة السياسية، وتُخفي ذلك خلف براجماتيةٍ مفضوحة. وفي منظورٍ آخر مُقارب، فقد تسلق على النضال التاريخي، حتى بلغ أقصاه، وصاهر أحد جنرالات الجيش، الذي هرب من مواجهة الأحرار في لبنان وتخلى عن عقيدته العسكرية، ولجأ للسفارة الفرنسية، واستقر بها لأكثر من 9 أشهر. من هنا يمكن لنا فهم تركيبة تلك الشخصية "الميكافيلية"، وربما المريضة والمهووسة بالسلطة. يخشى جبران باسيل العقوبات الأمريكية باعتباره أبرز المدافعين والمنافحين عن حزب الله والتطرف الذي تمثله الميليشيا. قال يوماً ما "إنه يفتخر بالتفاهم مع حزب الله، والإسهام بمنع عزله". وفي المقابل يحلم ويعمل على تحقيق حلم بلوغه رئاسة الجمهورية وريثاً لصهره، وهذا جانب آخر وصولي يمكن من خلاله أن نفهم أخلاقاياته الطامحة للوصول إلى سُدة رئاسة الجمهورية، على الرغم من الإيمان بعدم اقتداره ولا تأهيليه سياسياً، استناداً على شهوة السلطة لا أكثر، والمقدرة على خلط الأوراق وتعطيل الدولة في آنٍ واحد. أما الرأس الآخر للأفعى، هو ميليشيا حزب الله، لكن كيف؟ من خلال سيطرته على القرار في لبنان "القرار المطلق"، ومنع حدوث تسوية سياسية على حسابه، - على المستوى المحلي - حتى وإن بلغ الأمر عرقلة تشكيل الحكومة، وعلى الصعيد الدولي من خلال المفاوضات حول ترسيم الحدود مع إسرائيل وهي الموصوفة من قبل الحزب بالعدو. يريد الحزب تجنب عنوانٍ أعرض يتمحور حول تجريمه ووضعه على قوائم الإرهاب العالمي - وهو يستحق ذلك -، ويجب عدم تجاهل أن الحزب الإرهابي يعمل من خلال "البلطجة" السياسية والإرهاب بـ"السلاح السائب" الذي سكت عنه رئيس الجمهورية ثمناً لوصوله قصر بعبدا، على إرهاب الداخل اللبناني، وتحويله إلى فزاعة تُشهر في وجه أي رئيس حكومة يسعى لنقل الدولة من حالة اللادولة، إلى حالة التنفس على أقل تقدير. أعتقد أن الطرفين - باسيل والميليشيا الإرهابية - حتى وإن كانت العلاقة بينهما يشوبها بعض من الفتور، إلا أنهما التقيا عند نقطتين. الأولى المقدرة على تعطيل الدولة، والثانية دفع كلٌ منها الآخر لتحقيق مكاسبه الخاصة. الأول يسعى للرئاسة ويعينه الثاني على تحقيق ذلك، والثاني يخشى حدوث تسوية تشمل المنطقة بأسرها على حسابه أو يكون هو ثمناً لها، ويعينه الأول على منع حدوث ذلك. يتضح من خلال ما سبق إن صدقت الرؤيا وتفسيرها، أن الوضع السياسي في لبنان يُعاني بالدرجة الأولى من محورين. أولهما يمثله طامحٌ لزعامةٍ أكبر من مقاسه، وثانيهما تمثله ميليشيا تعتقد أن القرار لا يمكن أن ينفذ مهما كان الرئيس - أي رئيس الوزراء - دون المرور بدهاليزها الإرهابية. أعتقد أن الحريري الأب تجرّع من الكأس ذاتها، ما هو أمرّ وأقسى من السمّ الذي من المفترض أن يتجرّعه الابن، إذا ربطنا الحقبة الحريرية الأولى بالوجود السوري القائم على أقبية المخابرات الأسدية. وجاء الوقت لأن يأخذ كأس السموم حقه من الحريري الابن، كما تجرّع والده الخيانة والغدر، إلى أن ذهب ضحية أطنان من المتفجرات والشمس في كبد السماء. أتصور أن البدلة الرسمية التي يفترض أن يرتديها رئيس الوزراء اللبناني - السني وفق اتفاق الطائف - لا تليق إلا بسعد الحريري. وأؤمن بالوقت ذاته، أن بعض التعقيدات التي يقاتلها أكبر من سعد نفسه وأقوى منه. وأنا على يقين أن لا لبنان بلا الحريرية السياسية، وأثق بالمقابل أن سعدا يعي بالمطلق المُعرقلات التي يُشكلها الطرفان الآنف ذكرهما. من هذا المنطلق تحول إلى "مُتذوقٌ للسموم" بعض الوقت، وبعض الوقت الآخر إلى "رجل إطفاء"، وليس رئيس وزراء. هذا قدره، وهذه هي لبنان، وستبقى هكذا.
مشاركة :