قراءة تاريخية في المجتمعات الإنسانية الحديثة.. إنجلترا نموذجاً

  • 10/30/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

إنجلترا أو المملكة المتحدة أو الإمبراطورية البريطانية كانت تاريخياً من أعظم الإمبراطوريات التي ضمت ملايين الأنفس في العالم.. فلم يسجل التاريخ أن ضمت إمبراطورية أقواماً وأجناساً وأدياناً وألسنة وثقافات متباينة ومختلفة مثل ما ضمت الإمبراطورية البريطانية ومع ذلك كانت هذه الإمبراطورية وحدة متماسكة دون أن يكون تماسكها مستنداً إلى القوة.. في أثناء رحلاتي إلى الولايات المتحدة الأميركية كنت أتوقف في العادة في إحدى دول الغرب الصناعي كبريطانيا فترات طويلة أو قصيرة. وكنت أجد صعوبة في التداخل والتكيف مع الفرد الإنجليزي وأنكمش من طرائق التعامل التي لم أكن أألفها كما ألفتها في المجتمع الأميركي. فقد كنت متصورًا أن قواعد العلاقة مع الإنجليزي تشابه قواعد العلاقة مع الأميركي إلا أنني وجدت أن الإنجليزي لا يشعر براحة مطلقة في الاختلاط بالأجنبي، وأعتقد أن السبب أن الإنجليزي بحكم ميله الفطري إلى العزلة لا يحب أن يكشف لأحد عن نفسيته وعقليته بسهولة كما هي الحال في الأميركي والفرنسي مثلًا. ولذلك فإن الإنجليزي حتى مع الفرد الإنجليزي الآخر بطيء في تأسيس العلاقة أو الصداقة ولكن إذا ما تأسست العلاقة أو الصداقة فإنها تكون طويلة الأمد وعلى أتم وأكمل مظاهرها.. ولكن كيف يستطيع شخص قادم من خلفية معينة أن يكيف نفسه على الحياة في بيئة حضارية أخرى تختلف تمامًا عن البيئة التي قدم منها؟ وما العوامل التي تسهم في تسهيل هذا التكيف وتجعله ممكنًا؟ هذه الأسئلة ذات علاقة بمفهوم الثقافة. فعندما ننظر إلى المجتمع البريطاني نجد أن الذي يقيم مدة طويلة في بريطانيا ويتمثل خصائص الثقافة البريطانية والتفكير البريطاني فإنه يرى الأشياء بمنظور مختلف.. وإن كانت درجة التمثل الثقافي في المجتمع البريطاني تختلف عن المجتمع الأميركي.. فالمجتمع الأميركي فيه ثقافة سائدة وقوية وفيه ثقافات جانبية أخرى. ولذلك فلن يستطيع شخص غريب عن المجتمع البريطاني أن ينجح في محاولته لو أنه قرر تبني خصائص الثقافة البريطانية لأن أمامه طريقاً طويلة لو أنه اختار أن يحصل على القبول النهائي من المجتمع البريطاني. ولذلك فمعظم الراغبين في الاندماج في المجتمع البريطاني يكتفون بدرجة محدودة وذلك بسبب صعوبة عملية التمثل.. وإن كان يبقى التفاوت بين الأفراد في درجة التمثل. وقد شغلت الحالة الإنجليزية اهتمام بعض الدارسين والباحثين في محاولة لفهم حقيقة المجتمع الإنجليزي.. وقد قرأ المفكر الفرنسي أدموند دمولان في كتابه: (سر تقدم الإنجليزي السكسوني) والذي نشره العام 1897 والذي يرى فيه أن الإنجليز سبقوا العالم في الكشوفات الحديثة ولكن دمولان لا يعتقد أنه من السهل اكتشاف سر هذا التقدم. وقد تناول الدبلوماسي العراقي أمين المميز في كتابه: (الإنجليز كما عرفتهم) مطالعات ومشاهدات عن المجتمع البريطاني في نسختيه العربية والإنجليزية والذي نشره العام 1944م والذي يعد مكملًا وموضحًا لكتاب د. حافظ عفيفي (الإنجليز في بلادهم)، إلا أن كتاب (الإنجليز كما عرفتهم) يظل جديرًا بالمطالعة الدقيقة لأن المؤلف أجاد في تحليل النواحي الخلقية والنفسية والعقلية لمجتمع حار العلماء في تعليل سر تقدمه ونبوغه. فمجتمع منعزل في جزيرة يخيم عليها الضباب أكثر أيام السنة ولا تتمتع بنور الشمس إلا ثلث السنة وله من برودة الطبع ما أصبح مضرب الأمثال إلا أنه مع ذلك يمتاز بخواص ذهنية فوقته على سائر العالم، ما دفع الآخرين إلى تقليده في فلسفته وفكره وعلومه ومناهجه. فإنجلترا أو المملكة المتحدة أو الإمبراطورية البريطانية كانت تاريخياً من أعظم الإمبراطوريات التي ضمت ملايين الأنفس في العالم.. فلم يسجل التاريخ أن ضمت إمبراطورية أقواماً وأجناساً وأدياناً وألسنة وثقافات متباينة ومختلفة مثل ما ضمت الإمبراطورية البريطانية ومع ذلك كانت هذه الإمبراطورية وحدة متماسكة دون أن يكون تماسكها مستنداً إلى القوة. ولكن هل كانت هذه الإمبراطورية ثمرة خطط موضوعة ومرسومة منذ سنين وأجيال أو أنها وليدة المصادفة؟ إن كثيرًا من المفكرين الإنجليز يرون أنها كانت وليدة مصادفة.. وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك فيقول إن الإمبراطورية البريطانية ليست وليدة المصادفة فحسب ولكنها وجدت في نوبة ذهول فكري، ومع ذلك فإن إنجلترا ومعها أوروبا قدمت للعالم ثقافة حديثة تقوم على أسس عصر العلم وتحولاته ومناهجه الفلسفية والعقلانية وكشوفاته الحديثة التي شكلت ما يعرف بالعالم الحديث أو عصر النهضة الأوروبية.

مشاركة :