بعد 19 نقلة فقط من بدء آخر مباراة ضمن المباريات الست التي خاضها الروسي "جاري كاسباروف" في الحادي عشر من مايو 1997 ضد كمبيوتر "ديب بلو" المطور من قبل شركة البرمجيات الأمريكية "آي بي إم" هُزم بطل العالم في الشطرنج الذي يشار إليه من قِبل كثيرين باعتباره الأفضل في تاريخ اللعبة. في النقلة السابعة من المبارة الحاسمة التي جاءت بعد 5 مباريات – انتهت 3 منها بالتعادل بينما ربح كل طرف مباراة واحدة – ارتكب "كاسباروف" خطأً فادحًا أثناء تنفيذه افتتاحية "كارو كان" استغلها بسرعة الكمبيوتر "ديب بلو" في شن هجوم على "كاسباروف" بعد أن ضحى الجهاز في خطوة جريئة بالحصان. عن هذا الخطأ الفادح وأخطائه الأخرى، تحدث "كاسباروف" في كتابه الصادر في عام 2007 تحت عنوان "كيف تشبه الحياة الشطرنج" حول طريقته في التعامل مع الأخطاء بشكل عام، وهي الطريقة التي يصفها بأنها السر وراء نجاحه في السيطرة على لعبة الشطرنج بداية من عام 1986 وحتى اعتزاله في عام 2005. درس من أعظم لاعبي الشطرنج كل لاعبي الشطرنج الجيدين يهتمون جدًا بتحليل ودراسة حركاتهم أو نقلاتهم غير الموفقة على الرقعة ذات الـ64 مربعًا، على سبيل المثال، قد يقول أحدهم لنفسه "لقد حركت الحصان من هذا المربع إلى ذاك وانتهى الأمر بكارثة، لذا ربما لا ينبغي أن أقوم بذات الحركة مرة أخرى". ولكن في المقابل يشير "كاسباروف" إلى أنه يأخذ تحليله إلى مستوى أعمق من ذلك بكثير؛ حيث يصف الطريقة السابقة في تحليل الأخطاء بأنها مبنية على "عقلية النتيجة" بينما يفضل هو التركيز على "عقلية النظام"، بعبارة أخرى يفضل الروسي العبقري تحليل النظام الذي أفضى إلى اتخاذه ذلك القرار وليس النتيجة. كان الرجل يسأل نفسه أسئلة من نوعية: كيف توصلت إلى الاعتقاد بأن الحركة التي لعبتها هي الحركة الأمثل؟ كيف كانت حالتي الذهنية والشعورية حينها؟ بغض النظر عن مآلاته، ما العوامل التي قادتني إلى اتخاذ هذا القرار؟ ببساطة كان "كاسباروف" يهتم أكثر بتحليل عملية اتخاذ القرار نفسها وليس نتيجة القرار، وإذا تأكد من سلامتها لا يمنعه فشل الحركة في مباراة من القيام بها في مرة أخرى! السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف لأي عاقل أن يعيد اتخاذ ذات القرار الذي أفضى إلى خسارته في السابق؟ في الحقيقة هذا وارد جدًا، ولكن من يقوم بذلك هو على الأغلب واحدًا من اثنين: إما شخص شديد الحكمة وإما آخر شديد الغباء، والأكثر من ذلك، هو أنه في بعض الأحيان يجدر بالشخص ألا يعيد استخدام الاستراتيجية التي تسببت في تحقيقه للمكسب مرة أخرى! كيف ذلك؟ مشكلة الكثيرين بسوق الأسهم طريقة "كاسباروف" في تحليل الأخطاء ربما تنطبق على أغلب مجالات الحياة وفي القلب منها الاستثمار بسوق الأسهم؛ فالمستثمر حين يتخذ قرارًا استثماريًا يتسبب في خسارته للمال فهو بين أمرين: إما أن يركز على النتيجة والسبب المباشر فيها كظهور مشاكل بالميزانية العمومية للشركة على سبيل المثال وإما أن يركز على عملية اتخاذ القرار ذاتها وكيفية توصله بالأساس إلى أن الاستثمار بهذه الشركة فكرة جيدة. تركيز المستثمر على إعادة تحليل نظام اتخاذ القرار الخاص به سيمكنه من التعرف على الثغرات وأوجه القصور التي قد تكون موجودة به وهو ما سيحسن من جودة ونوعية القرارات المتخذة في المستقبل، في إطار هذه العملية سيواجه المستثمر نفسه بأسئلة مثل: ما العوامل التي قادتني إلى الاعتقاد بأن الاستثمار بهذا السهم خيار صائب؟ هل بالغت في التركيز على عناصر محددة بينما تجاهلت أخرى قد تكون أكثر أهمية؟ لتوضيح ما سبق سنضرب المثال التالي: في بداية العام الماضي قرر حسن الاستثمار بسهم الشركة "س"، ولكن بعد أسابيع قليلة استمر السهم في التدهور وهو ما تسبب له في خسائر كبيرة، برأيكم: هل أخطأ حسن حين قرر الاستثمار بهذه الشركة؟ كل من سيركز على الخسارة سيندفع قائلًا "نعم أخطأ حسن" بدليل خسارته للمال، ولكن هل هذا صحيح فعلًا؟ بعبارة أخرى، كيف نحكم أو كيف يحكم حسن نفسه على صحة قراره الاستثماري ويتعرف على أوجه قصوره المحتملة لكي يتجنبها في المستقبل؟ ببساطة كل ما على حسن فعله هو الرجوع خطوة إلى الوراء وتحليل العملية أو نظام التفكير الذي قاده إلى اتخاذ ذلك القرار من الأصل، بمعنى أنه من الوارد جدًا أن الرجل قرر الاستثمار بهذا السهم بعد اعتماده على مكرر ربحيته المنخفض كمؤشر وحيد على جاذبيته، وهو ما يعد خطأً فادحًا لا يقع فيه إلا المستثمر المهمل أو ضعيف الخبرة. ومن الممكن أيضًا أن يكتشف أنه لم يقدم على شراء هذا السهم إلا بسبب تأثره بحماس غيره من جمهور المتداولين له، أي أنه لم يكن في حالة شعورية غير مستقرة بسبب سيطرة الطمع عليه، فضلًا عن تجاهله لكل المقاييس الفنية واستناده لحماس الجمهور كدليل وحيد على أن السهم أمامه آفاق صعودية كبيرة. ولكن هناك احتمال آخر، وهو أن يتأكد حسن من سلامة تحليله الذي قاده إلى اتخاذ ذلك القرار ويكتشف عدم وجود أي خطأ به، ولكن كيف خسر أمواله إذن؟ هنا يأتي دور القدر، والذي قد يقف في صفك مرة ويعاندك في أخرى، فمن المحتمل أن الشركة "س" شركة جيدة بالفعل، ولكنها اصطدمت فجأة بأزمة قلبت أمورها رأسًا على عقب. هذه الأزمة المفاجئة قد تحدث لأي شركة، وتسببها في خسارة "حسن" لجزء كبير من أمواله لا يعني أن قراره بالاستثمار بها كان خاطئًا، بل على العكس، ربما يجب عليه الالتزام في المستقبل بنفس المنهجية التي أفضت إلى اتخاذه لهذا القرار إذا راجعها وتأكد من سلامتها. ربحت ولكن .. لا تفعلها مرة أخرى! عكس ما سبق صحيح، بمعنى: قد تتخذ قرارًا استثماريًا معيبًا يؤدي إلى تحقيقك لمكاسب كبيرة، ولكن كيف نصفه بالمعيب في حين أنه تسبب في تحقيق المكاسب؟ وهذا سؤال جيد جدًا في الحقيقة. ببساطة، قد تقوم مثلًا بالاستثمار في السهم "ص" استنادًا إلى حقيقة أن الشركة توزع بصفة دورية أرباحًا أكبر بالمقارنة مع منافسيها بنفس القطاع، في حين أن الشركة في حقيقة الأمر تستدين من البنوك لكي تبقي التوزيعات كما هي حتى لا ينفض المستثمرون عن السهم. لا شك بأن الاستثمار بهذا السهم خطأ كبير، لأنه عاجلًا أو آجلًا ستصبح هذه الديون كالقنبلة التي ستنفجر في وجه المساهمين وتعصف بأموالهم، ولكن رغم استنادك إلى معايير معيبة من الوارد جدًا أن يحالفك الحظ وتدخل وتخرج من السهم في الوقت المناسب محققًا مكاسب كبيرة. الخطورة هي أن نجاتك ووقوف القدر إلى جانبك هذه المرة قد يجعلك تعتقد أن المكاسب التي حققتها دليل على سلامة الاستراتيجية التي اتبعتها أثناء اتخاذك لذلك القرار، ومن ثم تبادر إلى تنفيذها مرة أخرى، ولكن بما أن الجرة لا تسلم في كل مرة فعلى الأغلب ستصطدم بالحائط قريبًا، ومشكلتك ببساطة هي أنك ركزت على النتيجة لا النظام، والأولى خدعتك. أخيرًا، بالعودة إلى عام 1997، هل تعرف كيف تمكن الكمبيوتر "ديب بلو" من هزيمة "كاسباروف"؟ ببساطة قام الجهاز بتحليل كل الاستراتيجيات وأنظمة اتخاذ القرار التي اعتمد عليها الآلاف من لاعبي الشطرنج في ملايين المباريات قبل أن يستخدم خلاصة دراسته لكل ذلك في هزيمة الرجل الذي ظل متصدرًا ترتيب الاتحاد الدولي للشطرنج لمدة 225 شهرًا من أصل 228 هي عمر مسيرته الاحترافية.
مشاركة :