محمد النجار يكتب: دلالات وبشارات مولد رسول الله

  • 10/31/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

عام الفيل: لقد ولد رسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم في عام الفيل، وقد كان العرب قبل الإسلام تؤرخ لأيامهم وسنيهم بالأحداث المهمة، فكان من أهم التواريخ لديهم قبل ذلك، بناء الكعبة فأرخوا إليه، وانهيار سد مأرب في اليمن بعد ذلك، حين حصل فإنهم تركوا التأريخ ببناء الكعبة وأرخوا إليه، فلما كانت وفاة كعب بن لؤي الجد السابع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تركوا التأريخ بانهيار السد، وأرخوا إليه، فلما كان عام الفيل، أرخوا إليه، وعام الفيل هو العام الذي حمى الله عز وجل فيه مكة وأجار أهلها، من أبرهة ملك الحبشة ببركة كونها البلد الذي سيولد فيه رسول الله ، وفيه سينشأ ويبعث، وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه عن ذلك فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}.أسعد الحميري يريد هدم الحرمين: لم تكن تلك المرة التي حفظ الله فيها مكة من عدوان أبرهة، ببركة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم قبل مولده، هي المرأة الأولى التي يحفظ الله تعالى فيها بلده الحرام ببركته ، فقد حفظ مكة والمدينة قبل ذلك بسبع مائة عام أيضًا ببركته ، فقد جاء في كتب التاريخ والسير، ما ذكره ابن إسحاق رحمه الله من أن تُبَّع ملك اليمن أسعد الحميري، أراد غزو المدينة المنورة، قيل لأنه كان في غزو فمر بها فخلف على أهلها ابنًا له، فقتلوه غيلة، فهاج عليهم يريد استئصالهم وتخريبها، فبينا هو على ذلك من قتالهم إذ جاءه حبران من أحبار اليهود من بنى قريظة عالمان راسخان، حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما ولم ذلك ؟ قالا هي مُهَاجَرُ نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره. فتناهى عن ذلك، ورأى أن للحبرين علما وأعجبه ما سمع منهما، فانصرف عن المدينة واتبعهما على دينهما. قال ابن اسحاق: وكان تُبع أسعد الحميري وقومه قبل ذلك أصحاب أوثان يعبدونها، فتوجه إلى مكة وهى طريقه إلى اليمن، حتى إذا كان في منطقة بين عسفان وأمج، أتاه نفر من قبيلة هذيل فقالوا له: أيها الملك، ألا ندلك على بيت مال داثر أغفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة ؟ قال: بلى، قالوا: بيت بمكة يعبده أهله ويُصَلُّون عنده، فلما أجمع لما قالوا أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك، فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك، ما نعلم بيتا لله عز وجل اتخذه في الأرض لنفسه غيره، ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعا، قال: فماذا تأمرانني أن أصنع إذا أنا قدمت عليه ؟ قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به وتعظمه وتكرمه، وتحلق رأسك عنده، وتذلل له حتى تخرج من عنده، قال فما يمنعكما أنتما من ذلك؟ قالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه السلام، وإنه لكما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يهرقون عنده، وهم نجس أهل شرك، فقدم تُبَّع مكة، فطاف بالبيت ونحر عنده وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل، وأُرِىَ في المنام أنه يكسو البيت، فكساه الخصف – وهي الحصير من الخوص ــ، ثم أُرى في المنام أنه يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر – وهي ثياب يمنية - ثم أُرى أنه يكسوه أحسن من ذلك فكساه الملاء والوصائل – وهي أيضًا ثياب يمينة أحسن من الأولى ــ، فكان تُبع فيما يزعمون أول من كسا البيت، وأوصى به ولاته من قبيلة جُرْهُمٍ وأمرهم بتطهيره وأن لا يقربوه دما ولا ميتة، وجعل له بابا ومفتاحا. الشاهد من ذلك كله: من قصة الفيل، وإهلاك الله لأبرهة وجنده بالطير الأبابيل، ومن حفظ الله للمدينة ومكة من بطش تُبع أسعد الحميري ملك اليمن، أن الله حفظ هذا البيت وهذا البلد وحفظ المدينة أيضًا وحمى أهلهما لأن مكة هي مبعث النبي  والمدينة هي مهاجره، وفي هذا فائدة وعبرة، لأن الحماية للبلدين الشريفين والإجارة لأهلهما إنما كانت بسببه ، وفرعًا عن حفظ الله لرسالته، فلذلك حين انتشرت الرسالة، واكتمل الوحي، وتم الدين، لم يحصل لمن تَعَدَّى على الحرمين أو أحدهما ما حصل لأبرهة؟، لأن الحماية لهما ليس لطهارة ترابهما وهو طهور بلا أدنى ريب، ولا لتاريخهما وهو عريق لا محالة، ولا لموقعهما الذي هو مركز الأرض، ولكن لما خصهما الله به دون سائر البلاد من حمل عبء الرسالة الإلهية رسالة الإسلام للبشرية تحملًا وتبليغًا، لذلك فإنه لما بُعث رسول الله  واكتملت رسالته، وتم لها الانتشار في الأرض محفوظة بحفظ الله، لم يحصل للبلدين من الحفظ ما كان لهما قبل بعثته ، وخلالها، مع بقاء صفة القدسية لهما في كل الأوقات، بما خصهما الله به من التشريف بالتوجه إلى مكة في العبادة، في الحج والصلاة، ولوجود قبر الرسول  ومسجده وآثاره في المدينة، لكن قد حصل من التعدي على الحرمين بعد انتقال النبي  ما لم يكن يُسْمَحُ به في أقدار الله قبل ذلك، وإنما كان ذلك كذلك لأن العناية الكونية قد تصاحب العناية الشرعية أو تتخلف عنها، فهما متصاحبتان حين يتعلق الأمر برسالة الله عز وجل، فهو سبحانه المتكفل بحفظ الرسالة وحفظ كل ما يتعلق بها، فإذا ما تم البلاغ وقامت على الناس الحجة، قامت العناية الشرعية تكليفًا لأهل الإيمان بما كانت تقوم به العناية الكونية، قبل ذلك، لذلك قال الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (سورة آل عمران، آية97)، أي يجب شرعًا أن يكون آمنا، فلا يحل التعدي عليه، فإذا حصل التعدي فهو بتقصير من الملكلفين بحمايته، سيحاسبون عليه، لأن حمايته انتقلت بوجودهم انتقالًا نوعيًا من الحماية الكونية إلى الحماية الشرعية، ومثل ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لأَهْلِهَا وإني حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَىْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لأَهْلِ مَكَّةَ ». تَهَدُّمُ شرفات قصر كسرى، وخمود نيران فارس: نقل ابن كثير رحمه الله تعالى في كتاب السيرة النبوية عن الخرائطي بسنده إلى مخزوم بن هانئ المخزومي، عن أبيه قال: (لما كانت ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقط منه أربع عشرة شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ورأى الموبذان إبلًا صعابًا تقود خيلًا عرابًا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها). إشارات دلالية، ورموز كونية: إن فيما سبق إشارات دلالية ورموز كونية يقصد منها انتهاء عهد الأكاسرة، وانتهاء الإمبراطورية الفارسية، فارتجاس الإيوان  وسقوط شرفاته الأربعة عشر، وخمود النار التي لم تكن خمدت من ألف عام ورؤيا الموبذان وهو قاضي القضاة إذ رأى إبلًا صعابا تقود خيلًا عرابًا أي إبلا لا تركب تقود خيلًا عربية. فهذه كلها إشارات تحذيرية تدل على قرب زوال ملكهم، وتَهَدُّم أركان دولتهم، على أيدي رجال قادمين من جهة العرب. والعجيب أن يحدث ذلك لكسرى، دون قيصر، فقيصر الروم لم ير شيئًا من ذلك عند ميلاد رسول الله ، فلم ير ما يدل على زوال ملكه!، مع أن الإسلام قضى على المملكتين الفارسية والرومية الشرقية!؟. وجواب ذلك: أن ما حدث عند كسرى دون قيصر يوم مولد رسول الله  يدل على أن الصراع بين الإسلام وغيره من الممالك والحضارات لن يكون صراع ملك، ولكنه صراع دين، لن يكون صراع سلطة، ولكنه صراع عقيدة، ولن يكون في الوقت ذاته صراعًا شاملًا بينه وبين سائر الأديان والعقائد، ففي الأحداث التي جرت دليل على أن الإسلام الذي سيأتي به محمد  سيُنهي دين المجوسية، بينما ستبقى المسيحية قائمة، فلن يكون بين الإسلام والأديان السماوية السابقة عليه صراع مقصود من جهة المسلمين، ففي الأحداث السابقة على ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، دليل على أن المقصود ليس الملك ولكن العقيدة التي تحميه، لذلك رأى كسرى المجوسي ما رأى عند مولد النبي ، لفساد دينه جملة وتفصيلا، فهو دين حَريٌ بألاَّ يُصالح أو يُجاور،  ولم ير قيصر المسيحي مثله، مما يدل في السياق ذاته على أن الصراع المفتعل بين الإسلام والأديان السماوية السابقة عليه ليس صلاعًا إسلامي المنشأ، ولا هو اختياره، إنما هو أمر طارئ ألجأ إليه الخوف غير المبرر لدى الطرف الآخر من الدين الحق، وكذلك الحقد والحسد في أحيان أخرى؛ أما الإسلام نفسه فليس شيء في البشارات والنذارات السابقة على مولد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولا في أحكامه بعد ذلك ما يدل على أنه آت لهدم دين اليهود أو النصارى.

مشاركة :