ليس هناك ما هو أصعب على المرء من رحيل يتوقعه، لكنه يمضي أيامه وهو يأمل في أن يخيب ذلك التوقّع. ليس أصعب من اللحظة التي يكتشف فيها المرء استحالة تلك الخيبة. رحيل نور الشريف عن تسعة وستين عاماً بعد معاناة مع المرض، كان منذ شهور مجرد وقت وعدّ للأيام بل للساعات. فمنذ ذلك الحين حسم الأطباء الأمر وطلبوا من محبي الفنان الكبير أن يستعدوا للحظة النهاية. وهو كان يعرف هذا. قاله لنا بهدوء ووداعة استسلامية مدهشة حين التقيناه لدقائق في منزل النجمة يسرا. لم يكن قادراً على البقاء طويلاً. جاء فقط للوداع. فبالنسبة إلى نور الشريف كانت واجبات الصداقة شيئاً مقدساً. كما الفن. كما السياسات التقدمية التي كان من غلاة المدافعين عنها. صحيح أن نور واسمه الحقيقي محمد جابر عبد الله، كان يعجز أحياناً عن التدقيق في بعض ما يلعب من أدوار فيقوم بما قد يتناقض مع فكره المتواكب مع العصر، لكنه كان يعتبر ذلك مجرد «كبوات يقوم الفارس بعدها مشرئباً إلى الأمام». هكذا عبّر عن الأمر حين آخذناه على دوره «الرجعي» في «الحاج متولي»، واعداً بأنه «لن يعيدها» وهو يكاد ينقلب على قفاه من الضحك. غير أن «كبوات» نور كانت قليلة. فهذا الفنان العصامي الآتي من عمق الطبقات الشعبية وهاوي كرة القدم الذي عانق الفن طوال أكثر من أربعة عقود، عرف دائماً كيف يغلب اهتمامه بالأدوار الجادة على أي شيء آخر، سواء كان ذلك على خشبة المسرح أو على الشاشتين الصغيرة والكبيرة. ولعل هذا ما جعله يبقى كل هذه السنوات في أدوار البطولة التي جاءته باكراً وتمسكت به أكثر كثيراً مما تمسك بها. وعلى هذا الشكل اكتشفه كبار مخرجي مصر وأفضلهم، فجعله يوسف شاهين أناه الآخر في «حدوتة مصرية»، وعاطف الطيّب بطل واحد من أروع أفلامه «سواق الأوتوبيس»، فيما جعله سعيد مرزوق «الكلب» الذي يثير رعب محمود مرسي وغيرته في «زوجتي والكلب»، بينما حوّله علي بدرخان إلى لص صغير في «أهل القمة» من دون أن ننسى عشرات الأدوار الرائعة التي كان غالباً ما كان يشترط ألا تتناقض مواضيعها ورسائلها مع قناعاته الفكرية والسياسية. ونور الشريف كان واحداً من قلة من نجوم مصريين عرفوا كيف يحملون قناعات وهموماً سياسية وعربية مصيرية. وكان في هذا المجال مساجلاً مدهشاً... وأحياناً إلى حدود الإفراط في استفزاز محدّثه. ففي القاهرة جمعه كاتب هذه السطور ذات مرة مع السياسي اللبناني فؤاد السنيورة وكان وزيراً للمال. أول اللقاء راح السنيورة يبدي إعجاباً فائقاً بأداء نور في مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي» الذي كان يعرض حينها. لكن الفنان قطع حديث السياسي عن الفن وراح يلومه على رغبة السلطات اللبنانية في تخصيص شركة الكهرباء «بالتناقض مع توجهكم الناصري يا معالي الوزير»، كما قال له بحدة. عبثاً يومها حاول الوزير اللبناني الدمث أن يعيد الفنان إلى جادة الحديث الفني، لكن هذا واصل هجومه وكأنه يملك ملف الكهرباء في لبنان! هكذا كان نور الشريف. وهكذا ظل حتى أيامه الأخيرة حين سألنا موهناً عن مصير الربيع العربي بعدما كان فقد إيمانه به معلقاً بكل إيجابية يومها على قرب إنجاز قناة السويس الجديدة. كان متفائلاً بهذا لكن شيئاً في نظراته كان يتوقع أنه لن يشهد لحظة الإنجاز... لكنه شهدها ورحل لينطوي برحيله زمن سينمائي وفني لا يمكن أن يستعاد، زمن كان فيه الفنانون يحملون هموم الناس والأوطان، وإن على طريقتهم!
مشاركة :