< بعد أن هدأت العاصفة التي أثارها قرار وزير التعليم بفتح فصول لتحفيظ القرآن الكريم في مدارس التعليم العام، يجدر بنا أن نناقش هذا القرار؛ لمعرفة ما إذا كانت تلك الخطوة ستخدم التطوير الذي نبحث عنه للنظام التعليمي، أم أنها خطوة في الهواء لا تضيف شيئاً يذكر حتى في مجال خدمة القرآن الكريم والعناية به كمرشد وموجه للطالب في حياته العامة والخاصة. لقد ترددت كثيراً في كتابة هذه المقالة وأعرف أن كثيراً من المهتمين بالتعليم، الحريصين على مستقبل بلادهم قد استغربوا صدور هذا القرار، ولم يتبينوا دوافعه؛ لأنه صدر من دون أن يستند إلى خطة استراتيجية للتطوير لها أهدافها وغاياتها ومداها الزمني، ولكنهم آثروا السلامة والصمت بعد أن سلق البعض ألسنة حداد ضد كل من يجرؤ على معارضته أو مناقشته، واتهموهم في دينهم ونياتهم. والواجب يحتم أن يصدح العارفون بالحق مهما كانت النتائج والتبعات. بداية لا بد من الإشارة إلى أن «تعلم» القرآن الكريم و«تدبر» آياته من أعظم القربات إلى الله ومن أفضل الطاعات، فهو النور المبين والصراط المستقيم، فيه آيات بينات، (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد). ولهذا جاءت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تحث على «التدبر» و«التفكر» و«القراءة» لهذا الكتاب العظيم: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته)، (أفلا يتدبرون القرآن)، (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وقوله: (الذي يقرأ القرأن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة) وغير ذلك من الآيات والأحاديث القاطعة. ولكن مفردة «حفظ» أو «تحفيظ» بصيغة الأمر أو الاستحسان لم ترد بنص واضح وصريح في القرآن الكريم أو السنة المطهرة، ولم تذكر أدبيات السيرة النبوية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاءه من بعده أنهم قد أقاموا حلقات لتحفيظ القرآن. والثابت تاريخياً أن أول قرار لجمع القرآن الكريم كان في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه – عندما خشي بعض الصحابة أن يضيع القرآن بعد استشهاد جمع من الحفاظ في حروب الردة، ولو كان الحفظ والتحفيظ شائعاً في ذلك الوقت لما خشي خليفة المسلمين أن يضيع القرآن بسبب تلك الحروب. ومما يؤكد هذا ما جاء في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: (مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد) (رواه البخاري). من أجل ذلك قال الفقهاء إن «حفظ» القرآن يعتبر فرض كفاية على الأمة وليس بفرض عين، فإن وجد من المسلمين من يحفظ القرآن فإنه يسقط عن الباقين. ومن الطبيعي أن يوجد اليوم من يحفظ القرآن عن ظهر قلب، وإن كان «حفظ» القرآن ليس بواجب حتى على طلبة العلوم الشرعية. وقد سأل أحد الطلبة عبدالله بن المبارك: هل أحفظ القرآن أم أطلب العلم، فقال إذا كان معك من القرآن ما تقيم به صلاتك فاطلب العلم؛ لأن طلب العلم فريضة كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحفظ القرآن مستحب فلا يقدم مستحب على واجب. ومن ثم فإنه لا يوجد في الشرع -فيما أعلم- ما يميز «حافظ» القرآن عن «قارئ» القرآن في الأجر أو البركة أو المنزلة في الدنيا والآخرة. من العجيب أن الاهتمام في عصور المسلمين الأولى كان في تعليم القرآن الكريم على رغم أنه لم يكن مطبوعاً ومتوافراً بين أيدي الناس، ولما انتشرت الطباعة ووسائل الحفظ، اهتم المسلمون بالحفظ والتحفيظ. لقد أشرت في كتابي إصلاح التعليم في السعودية إلى أن ظاهرة «حفظ» القرآن هي نتاج عصور انحطاط الحضارة الإسلامية، فقد جاءت فيما يبدو من تأثير الشعوب غير الناطقة بالعربية؛ لصعوبة فهم وتدبر معاني القرآن فكانت النتيجة اهتمامهم بالحفظ على حساب الفهم والتدبر. ويؤكد هذه النتيجة الباحث الفرنسي ستيفان لاكروا في كتابه: «زمن الصحوة» حين أشار إلى أن حلقات تحفيظ القرآن في المملكة بدأت من شيخ باكستاني يدعى محمد يوسف سيتي اقترح في سنة 1962، على أعيان مكة المكرمة وعلمائها، بعد أن أسس عدة مئات من هذه الحلقات في باكستان، تبنِّي الفكرة نفسها في المملكة العربية السعودية، فتأسست الجمعية الخيرية الأولى لتحفيظ القرآن في مكة المكرمة، وسرعان ما تكررت التجربة في مدن أخرى في المملكة. وقد استنبط هذه المعلومة من التقرير السنوي لجمعية تحفيظ القرآن في مكة المكرمة عام 1382- 1387هـ. هذا من الناحية الشرعية، أما من الناحية التربوية فإنني على قناعة تامة بأن المدة المخصصة لـ«تعليم» القرآن الكريم في المدارس غير كافية إذا أردنا تعليم معانيه وتدريس أسراره ومقاصده كما ينبغي، فمن خلال منهج متكامل للقرآن الكريم يمكن أن نعلم العقيدة، ونعلم الفروض والأحكام، ونعلم الآداب والأخلاق الفاضلة، كل بحسب ما يناسب عمره وخلفيته العلمية. ومن خلال هذا المنهج نستطيع أن نقدح في عقول التلاميذ شعلة التفكر في آيات الله الشرعية، وآيات الله الكونية، والتأمل في أحوال الأمم والشعوب، ولكن الاهتمام بأسلوب «الحفظ» قد أضاع الفرصة على إعداد وتطوير مثل هذا المنهج المتكامل. أعلم أن بعضهم سيقول إن ما يتم في مدارس تحفيظ القرآن هو أكثر من مجرد «الحفظ» وأن الطلاب يتعلمون «التفسير» والقراءات وغير ذلك، ولكن الحقيقة أن الجهد الذي يبذله الطلاب في «الحفظ» و«التجويد» يستهلك معظم طاقاتهم وإمكاناتهم. وإذا أضفنا إلى ذلك خشية بعضهم من إطلاق ملكات التفكير النقدي والاستنتاج والتحليل العقلي عند دراسة العلوم الشرعية، فإن مبدأ السلامة يجبر المعلمين والمعلمات على التركيز على «الحفظ» ولا شيء غير «الحفظ». وقد أكد هذه الخشية أحد طلبة العلم أخيراً في تغريدة مشهورة حين قال: «لا يجوز لغير طالب العلم أن ينشر ما توصل إليه من تدبر لآية في كتاب الله إلا بعد أن يعرضه على عالم أو متخصص ليصوب تدبره..»، وأعتقد أن هذا المنهج لا يختلف كثيراً عن منهج الكنيسة في أوروبا في عصور الظلام حين حاربت العقل والتفكير والتأمل خشية الهرطقة الدينية. لقد نُشر أخيراً الكثير من المغالطات التي لم تستند إلى معلومات صحيحة مثل القول إن خريجي مدارس تحفيظ القرآن متفوقون على أقرانهم من خريجي الثانوية العامة، أو القول بأن كثيراً من خريجي مدارس تحفيظ القرآن هم متفوقون في كليات الطب والهندسة وغير ذلك. والحقيقة أن تفوق مدارس تحفيظ القرآن في نتائج اختبارات التحصيلي والقدرات التي تصدر عن مركز قياس يأتي مقارنة مع طلاب القسم «الأدبي» (أو ما يسمى الشرعي) في الثانوية العامة، وليس مع طلاب القسم العلمي، ومن المعلوم أن معظم من يتجه إلى القسم الأدبي في الثانوية العامة هم أقل الطلبة اهتماماً بالتعليم واستعداداً للتعلم، كما أنه من المعلوم أن كليات الطب والهندسة لا تقبل خريجي مدارس تحفيظ القرآن؛ لأن شهاداتهم تعادل بالأقسام الأدبية والشرعية في الثانوية العامة. إنه من المقبول أن نقول إن «حفظ» القرآن يساعد في تنمية المهارات اللغوية عند الطلاب، وكذلك تنمية مهارات الاتصال، ولكن الغاية النهائية للتعليم ليس الوقوف عند هذه المهارات، وإنما تجاوزها لتنمية مهارات التفكير المنطقي، والتحليل، والتطبيق، وحل المشكلات، وهذه المهارات كما نعرفها من خلال الدراسات النفسية والتربوية لا تتحقق من خلال «الحفظ» Memorization وإنما تتحقق من خلال تشجيع الطلبة على النقاش الحر وطرح الأسئلة وتشجيع الأفكار الجديدة والجريئة. كذلك من المقبول أن نقول إن طلاب مدارس تحفيظ القرآن هم أفضل من طلاب المدارس العامة من حيث الالتزام السلوكي والأخلاقي للبيئة التربوية الصارمة التي نشأوا فيها، ولكن ينبغي ألا نتجاوز ذلك لعقد مقارنات في القدرات العلمية والمعرفية. مما سبق يتضح أن قرار وزير التعليم بالتوسع في فصول «تحفيظ» القرآن لا يخدم أي توجه لتطوير نظامنا التعليمي للانعتاق من ورطة «الحفظ» والتلقين، وللمنافسة في عالم سريع ومتغير. وفي تقديري أنه طالما أن هناك العشرات من الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن التي تشرف عليها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف وتنتشر في معظم مدن المملكة، فلنتوسع في برامجها وعددها ولندعم القائمين عليها، ولنترك مدارس التعليم العام لتقوم بمسؤولياتها في «تعليم» العلوم والمعارف والمهارات بما في ذلك علوم القرآن الكريم. فلماذا هذه الازدواجية وكأننا في دولتين ولسنا في دولة واحدة تتكامل أجهزتها الحكومية ولا تتعارض! أعرف أن مثل هذا الكلام لن يعجب كثيراً من المؤدلجين، ولكن أحتسب إلى الله في قول ما أعتقد أنه صواب، فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان. والله الهادي إلى سواء السبيل. * أكاديمي سعودي.
مشاركة :