ليس غريبًا أن يأتي مسلسل La Casa de Papel على هذا القدر من الذكاء؛ فلعل ما يميز الأعمال الفنية الإسبانية هو حبكتها المحكمة، وبُعدها «الدوّار» _ولعلنا نتذكر هنا رائعة خوان رولفو المسماة «بيدرو بارامو»_ حيث يدور كل شيء على ذاته، ويقود إلى نقيضه إن لم يعد إلى ذاته. الأمر المثير للدهشة هو الكيفية التي تم بها التعاطي مع الفكرة ذاتها، نحن أمام حادثة سطو على دار السك الملكية ثم على بنك إسبانيا، ومع ذلك لم يتم تصوير الفكرة على أنها سرقة أو سطو مسلح، وإنما قال البروفيسور “إننا لن نسرق شيئًا من أحد”. هذه الجملة _التي وردت في معرض حديثه عن خطة السطو _ هي التي ستكشف ما سيؤول إليه الحال فيما بعد، فأولًا يمكن القول، إن هذه الجملة طعن متعمد للملكية الخاصة، كما ستكون إيذانًا بالتحول من مجرد القيام بسطو مسلح إجلالًا لذكرى أبيه إلى «مقاومة». ونحن ندرك بطبيعة الحال أن هذه الكلمة «مقاومة» ذات فيض دلالي كثيف، واستخدامها هنا، بالإضافة إلى أغنية Bella ciao كان عن قصد، والهدف منه هو توجيه المشاهد إلى زاوية النظر التي أراد صانعو مسلسل La Casa de Papel أن يُنظر إلى العمل منها. ليس الأمر متعلقًا بمسلسل إثارة أو جريمة وإنما هو مسلسل «مقاومة»، والذين أرادوا أن يجدوا ما يعينهم على تبرير هذا التأويل لن يعدموا دليلًا. اقرأ أيضًا: نماذج الرواية السعودية.. تنوع يلائم فئات المجتمعجدوى الخطط ثمة مشهد _أظنه كان في الموسم الرابع من مسلسل La Casa de Papel_ هو عبارة عن نقاش بين برلين والبروفيسور يمكننا عنونته بـ «جدوى الخطط»، طبعًا نحن ندرك أن الناس حيال أمر التخطيط نوعان: الأول يؤمن بالطابع المثالي للخطة (البروفيسور) وأن الخطة المحكمة يمكنها أن تسقط العالم برمته وشتى وقائعه وأحداثه في فخها، أما الضرب الثاني فهو ذاك الذي يؤمن بجدوى الخطط ولا ينكر أهمية التخطيط، لكنه يضع الخطة موضع اختبار دائمًا. بمعنى أن الخطة المكتوبة على الورق لا تعدو كونها دليلًا استرشاديًا، أما نجاعتها الحقيقية فتظهر عند تعرضها لخلخلة ما، أو عند حدوث أمور لم تكون متوقعة، وبرلين؛ أخو البروفيسور في المسلسل، ومن بعده باليرمو يؤمنان بهذا التصور. مشكلة البروفيسور هنا أنه قدّم النظرية على الممارسة، صحيح أنه كان يسترشد بحالات سطو قام بها أناس آخرون ويحاول الاستفادة منها في خططه، لكنه كان يخطط وهو خارج الميدان، ومحال أن يسير كل شيء وفق ما توقعنا طالما أننا مؤمنون بأن العالم مفرط في سيولته، وأن الأمر المتكرر أبدًا هو اللامتوقع. لذا؛ يمكن أن يقول أحد ما إنه لا جدوى من التخطيط طالما أن اللامتوقع هو المتكرر أبدًا، وأن الصدفة تلعب الدور الأكبر على مسرح الأحداث والتاريخ، لكن ذلك محض شطط، كما وقع البروفيسور (في بعض الأحيان) في بعض الغلو في جدوى الخطط. وهذان طبعًا طرفان احتاجا إلى واسطة، والواسطة هنا هي طريقة «برلين» في التخطيط، هو يؤمن بأهمية الخطة وجدواها لكنه لا ينسى اللامتوقع، ومن ثم هو مستعد للتعامل مع المخاطر، كما أنه يقظ دائمًا. ويبدو أن صانعي مسلسل La Casa de Papel أرادوا الإشارة إلى تلك الإشكالية. اقرأ أيضًا: 5 أفلام رسوم متحركة ترفع شعار “لا للمستحيل”روح الفريق أو الانتماء للخطة ثمة درس كبير _يمكن لرواد الأعمال وقادة الفرق المختلفة أن يتعلموه من مسلسل La Casa de Papel _ مفاده أن الأجدى هو الانتماء إلى الخطة، هذا يعني أنه لا بد أن يكون هناك خطة موضوعة سلفًا علينا أن نعمل وفقًا لها، وأن على الجميع الالتفاف حول هذه الخطة. ورأينا في مسلسل La Casa de Papel الكثير من المعضلات الحقيقية، بعضها كانت بين أعضاء الفريق وبعضهم _برلين مثلًا كبّل طوكيو وألقى بها خارج دار السك بعد أن حاولت هي الانقلاب عليه، كما حاولت الانقلاب على باليرمو؛ قائد عملية السطو على بنك إسبانيا_ لكن ما أعاد الأمور إلى نصابها الصحيح أمران: وجود قائد حقيقي يدرك ما يريد أن يفعل، بالإضافة إلى الانتماء للخطة. وهنا أمر آخر: مهما كان الفريق مترابطًا والعلاقات بين أعضائه وثيقة فلا بد أن تقع بعض المشكلات والخلافات، ذاك أمر طبيعي _بل من غير المنطقي أن نتوقع خلاف ذلك _ لكن المهم هو إدارة هذه الخلافات، وضبط إيقاع الجميع ليتناغم مع الخطة الموضوعة سلفًا. اقرأ أيضًا: الدراما الأوروبية عن رواد الأعمال.. شاشتك لتعلُم العزيمةالعبث بالأبديولوجيا ومحاولة قلب القيم وبعيدًا عن فكر الإدارة والتخطيط في مسلسل La Casa de Papel هناك أمر آخر علينا أن نشير إليه، وهو محاولة خلط الأوراق أو قلب القيم، ونحن هنا نتذكر كتاب فريدريك نيتشه المعنون بـ «إرادة القوة: محاولة قلب جميع القيم»؛ حيث كان شيئًا لافتًا، على سبيل المثال، أن يتم التحول من كوننا أمام مسلسل جريمة إلى مسلسل مقاومة، وحشد المسلسل بعض الدلالات التي تعين على منطقية هذه التخريجة، كما أشرنا إلى ذلك قبل قليل. وأغرب ما في مسلسل La Casa de Papel هو تعاطف المشاهد مع هؤلاء السارقين، فالمرء الذي يشاهد حلقات هذا العمل المتوالية كان يتمنى على الدوام انتصار عصابة البروفيسور على الشرطة، وللصدق فالبروفيسور خطط جيدًا ليصل إلى هذه النتيجة؛ حيث كان مصرًا على عدم إراقة الدم، ولا على الإساءة، ودائمًا ما كان يقدم منطقه الخاص في قلب الأحداث. وليس ثمة دليل على العبث الرمزي بالأيديولوجيات القائمة من تحول راكيل موريو، لشبونة فيما بعد، من محققة إلى فرد في العصابة، وكذلك الحال بالنسبة إلى الضابط أنطونيوثياز. والمبرر أحد أمرين: إما أنني لا أعرف الأخيار من الأشرار (راكيل موريو)، أو نجاح تكنيكات البروفيسور المعتمدة على سيكولوجيا الجماهير. اقرأ أيضًا: إدغار آلان بو.. ما لا نعرفه عن أنفسنا السينما في المملكة.. ثقافة وترفيه برنامج “إثراء المحتوى” ودعم الإبداع
مشاركة :