"خيال الموج" رومانسية الظاهر .. سريالية العمق

  • 11/3/2020
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

يقول الكاتب المكسيكي خوان رولفو: "نحن كذابون. كل كاتب مبدع كذاب، لكن إعادة إبداع الواقع ينجم عن هذه الكذبة". إنّ الوعي إمّا أن يكون خارجيّاً أو داخليّاً، فالوعي الخارجيّ هو ما يرتبط بالعالم الخارجيّ، ويتعلّق بكلّ ما يأتي عن طريق الحواسّ الخمس وما يتبعها من أمور، مثل: الخيال، والذاكرة، ويُعدّ العقل أسمى درجات الوعي. أمّا الوعي الداخليّ فهو ما يتعلّق بالعالم الداخليّ والظواهر النفسيّة، وهو ما يُعرَف بالوعي الحدسيّ الذي يتمّ عبر العقل ويؤدّي إلى الاستبطان، وقد يكون الوعي مباشراً، ويعني ذلك أنّه يتعلّق بالحاضر والواقع، أو غير مباشر وهو ما يتعلّق بالماضي والذكريات.  قطعا إن للفلسفة علاقة بالموضوع ومهما كان هذا الموضوع لأنه في النهاية نتاج العقل. لذلك وفي بعض الحالات يمتزج الوعي باللاوعي. والوهم باليقين والواقع بالخيال - والحلم بالكابوس -  يعني هذا التصادم والصدام ومن أسبابه البحث عن حياة أفضل تتمثل فيها القيم الإنسانية كقوة تصارع عالم تحكمه القُوى الشرسة. إننا أمام نصوص قصصية نوعية شكلا ومضمونا. إنها ثمرة تجربة طويلة من القراءة والنقد والتجربة الحياتية المعبرة عن التوجه الفكري للكاتبة التقدمية هيام الفرشيشي الباحثة في كل جديد في الفنون لأنها اكتسبت القدرة الكافية على المحاورة والتجديد دون ادعاء بل بتواضع جميل. العنوان "خيال الموج"   نحن أمام استعارة جديدة. مجاز لغوي. شعرية باذخة ومعنى متعالِ. وفي هذا السياق وتقريبا لنوعية هذه الشعرية نستشهد بأبيات من قصيد "توتم" للشاعر سميح القاسم في استعارته التخييلية وبالتالي نظرية التفاعل للاستعارة. يقول: ألسنة النار تزغرد في أحشاء الليل ويدمدمُ طبل وتهدّ بقايا الصمت طبولٌ ضارية وصنوج ويهيجُ الإيقاع المبحوحُ.. يهيج فالغابة بالأصداء تموج...الكاتبة هيام الفرشيشي تملك من الخيال الكثير. وهذا ما ساعدها على الدنو من البحر خاصة ومحاورته، ثم جعله مصدر إلهامها وقد حدّدت زاوية نظرها والتمركز حول أفكارها التقدمية قصد التغيير. لقد رأت في البحر حياة أخرى. حياة تحتفي بالذاكرة في بعديها المادي والمعنوي. وهذا ما عملت على اكتشافه واستثماره لتؤرّخ للحظة. لحظة الكشف والمكاشفة وسرد هذه التجربة لعلها تكون قادحا لتجارب أخرى. لقد حضرت الرؤية والرؤيا بكثافة دلالة على الوعي بالواقع المعاش والمحاولة لتنقيته من الشوائب الضارة والمانعة لكل حماسة للأصل الصحيح. لقد تحرّكت العين بطلاقة في هذه القصص. وكانت تقريبا هي الحركة الأولى لباقي الحواس حتى أننا نرى الصورة ماثلة أمامنا في حركيتها الجمالية ولا ندركها إلا بعد تبصّر وتحقيق.  تحرّكت العين: عين الراوي، من أماكن مختلفة. في بعض القصص كان الرائي. إن كان شخصية أو راو محايد. يطل من موقع عال – الشرفة. لقد تحركت عين الكاميرا متوسلة بالرسم الذي انفتح برحابة أفق اللوحة التشكيلية المائية حدّ الابهار. لقد حاولت الأجواء الرومنسية في هذه "الألواح  المائية" أن تتغلب وتقفز على الأجواء السريالية المفزعة التي ستحتل المشهد. اخترت نموذجين.. الأول هو بداية قصة "خيال الموج" إذ تقول:  "وهو يدخن سيجارة في الشرفة. ويقذف بدخانها من رئتيه لاعنا هموم الشغل التي لا تفارق تفكيره حتى وإن انفرد بنفسه في منزله المطل على البحر. باغتته صورة الشمس وهي تتكوّر كقرص جمر أحمر أرسل لهبه. فتلونت السماء ببقع أرجوانية تتخللها ألوان رمادية وخضراء. ثم اقتحمت البحر وتمددت فوق الموج فتوهجت بلون ذهبي يغطس في لجج الماء". النموذج الثاني من قصة "كوابيس مبقعة بماء المطر" تقول فيه: "أنهض وأطل من النافذة لأرى رغبة الحياة تستيقظ في أعين النبات والشجر، تمسح السخام العالق في فجوات الحلم.. أشرقت الشمس لاسعة بينما بقيت قطرات المطر تبلل الشجر وتسترسل على بلور النافذة ". المضامين كانت كلها تصور سوداوية الواقع المعاش. أجواء مشحونة بالغضب والانتقام. وهذا ما جعل الكوابيس مثل اللازمة في حياة الشخصيات، إن كانت شخصيات رمزية أو هي شخصيات عادية.  * القصة الأولى (ص5) تحمل عنوان المجموعة  "خيال الموج"، تحكي عن رجل موظف له منزل ثان قرب البحر يزوره من حين لآخر دون أن يعلم عائلته طلبا للراحة. في آخر زيارة له لمنزله هذا  صحبة كلبه وكان يطلب الراحة. يعيش بعض الوقت محصورا بين الوهم واليقين.. الوعي واللاوعي. وهو بالشرفة يدخن سيجارة  والشمس في طريقها نحو الغروب تراءت له فتاة جميلة تخرج من البحر في ثوب سباحة أحمر. لم ينتبه لها حين كانت في الماء. تتنشف وتلبس ثوبا أحمر آخر وتغادر في سيارتها..  تتعاقب الأحداث برأسه متشكلة من عدّة ألوان طبيعية مرتبة تعكس ذائقة فنية حسنة تجلت في لوحات فنية رائعة تؤلف المشاهد وتطورها في حركة مدروسة  لامعة الإيقاع لنقف على معان عميقة في علاقة ما بالواقع.  تظهر له هذه الفتاة من جديد. فيعمل على معرفة حكايتها – حضرت الشرطة - فيتبيّن له أن هذه الفتاة كانت مهددة بالاختطاف من طرف سائقها الخاص وحارسها الشخصي اللذين كلفهما والدها برعايتها. يمكن للقارئ أن يحدد عناصر هذه القصة ووظائفها وأن يربط بين المنزل والبحر كفضائين – تخييلين – وما لمعت فيهما من  حركة وألوان منتقاة بذكاء. فعنصر الغموض لم يكن البتة هو غاية الكاتبة التي استعملت في أغلب النصوص لغة بسيطة في ظاهرها، ولكنها عميقة في صداها الشعري وفيها من السلاسة ما يجعلها كذلك مرغوبة عند الناشئة من محبي المطالعة. (إنها اللغة العليا). قصص هيام الفرشيشي تبوح بتيمة الرفض للسائد الحيني. المعاش. ترفض هذه الفوضى التي استحالت واقعا جديدا مفروضا بالقوة. ولعل انفتاحها على البحر والغاب كفضائين شاسعين فيهما من الدلالة والرمزية الكثير ليس إلا تحذيرا من التغافل عن جزء مكون لثقافتنا وتراثنا القريب والبعيد. هو دعوة للنظر إلى التاريخ ببصيرة ثاقبة  فتمنح القارئ مجالات عدة لتأويلها.  هي قصص قصيرة (ليست من عائلة اليوميات أو المذكرات) استوفت خاصياتها مع البحث عن - الانفلات  الأسلوبي – أي التجريب والتجديد في معالجة الفكرة لتجعلها هما مشتركا، فنتذكر أننا أمام مواضيع حياتية مررنا بها، أو هي مرّت فوق رؤوسنا كطائر غريب. وكل هذه القصص تقريبا تصور هذه الحيرة الوجودية التي يعيشها الإنسان اليوم محليا وكونيا وستستمر معه هذه الحيرة كقدر لا بدّ منه. تعددت الشخصيات وتنوعت مرجعياتها الفكرية – الرمزية - كما حال الضمائر المتدخلة في سَدى هذا النسيج \ اللوحة.. حتى أنني أعتبر أن الراوي المحايد في بعض هذه النصوص هو دلالة على موقف (سلبي) من الأحداث وربما يمثل كذلك حيرة الكاتبة. لذا سأترك للقارئ إمكانية الاختلاف مفتوحة. ولا يمكن لي على الأقل هنا أن أوجّه القارئ ليساند وجهة نظري ويوافقني في تفسيراتي للأحداث. هذا رأي .. فقط سأعرض بعض ملامح هذا العمل المتميز لعلني أساعد القارئ على اختيار زاوية نظره. * قصة طائر السماء (ص 15)  بداية القصة تقول: "في شرفة تطل على الشاطئ. تترك روائح البحر في الحلق طعم الملح. ويردد هدير الموج الصاخب صدى لحكايات منسية في أعماقه. أحاول خط تفاصيل الرحلة على الأوراق إلى "الهوارية" بدءا من الحافلة التي كانت تنتظرنا لنزور البرج الحفصي الأثري الذي يعتلي الهضبة، والذي لم يعد ثكنة عسكرية وغابت عنه تلك العيون التي تستجلي رغبات سكان البحر في المغامرة. لم تفصلنا عن الحقبة التي شيّد فيها البرج غير أربعة قرون كما قال لنا الدليل السياحي". هذه القصة  تدعونا من خلال الذاكرة – التخييل - إلى فهم واجبنا الوطني. أن نعي معنى المواطنة. أن لا نكتفي بتصفح تاريخنا كما نتصفح جريدة نقتنيها لنقرأ فيها صدى المحاكم أو الرياضة. أن تكون مواطنا صالحا هو أن تراقب وتشير إلى الخطأ وتعمل على الإصلاح لصالح المجموعة. القصة تحكي بلسان الشخصية المحورية عن رحلة ترفيهية إلى مدينة الهوارية شارك فيها الشخصية وهو طفل. هناك عند المغاور الأثرية انشغل الأطفال باللعب والمرح وانقسموا بين قراصنة وسكان الجزيرة. هذه إشارة أولى تأخذنا إلى أصل الموضوع. علاقتنا بعنصر الزمن،  مدى قدرتنا على فهم خاصيته ومدى جاهزيتنا على الفعل فيه. القصة تتحدث عن سرقة الآثار. والسارق ليس سوى الأستاذ الفرنسي رئيس فريق البحث في الآثار. وهو الذي أجاب الراوية بمكر حين سألته بعفوية عن سبب اهتمامه بالآثار، أجابها قائلا: "قد أبحث عن المجهول في ذاكرتكم. كما يبحث سكان بلدكم عن جرار الذهب في الجدران المتصدعة في هذا الأثر الذي كانت له أعين ترصد القادمين من منافذ البحر". ما يتضح من هذه الإجابة هو بروز عامل القوة أمام عامل الضعف. لقد علم عالم الآثار بطريقته أنه أمام طريق مفتوح مادام السكان/ المجتمع غير مبال بل هو - البعض منه –  مفعول فيه، أي جزء من الحل الذي يرجوه. إنه أمام فئات من المجتمع معدمة الوازع الوطني. فئات خائنة لمبدأ الإنتماء. أي مفرغة من هويتها، وهذا ما عبّر عنه الأستاذ الفرنسي  بـ "المجهول في ذاكرتكم ".  يتوافق (الواقع) مع تقاليد محلية يتعاطاها السكان وهي تربية طائر "الساف" هذا الطائر الصياد له مكائده في الصيد حيث كان ينثر الحَبّ ليستدرج الطيور إلى فخّه ثم ينقض عليهم.. وربما كردّ فعل من الكاتبة على سلبية السكان كما ظهروا في النص. نتفاجأ بموت الأستاذ الفرنسي نتيجة تعرضه للهجوم من طائر "الساف "..  هل يمكن أن نقول إن الطبيعة تحمي نفسها.  نرى في قصة "غافية على ركبة الزمن" كيف تضيع الهوية، كيف يُبنى العدم .. كيف تعتلي الشعوذة النفوس والرؤوس.. كيف يخطط أعداء الله والحياة لتدمير الوطن مشرّعين كل طرق الاستبداد والقتل تحت مسميات – الإسلام السياسي - استباح أصحابها عن جهل التعدي على قيم الإسلام. وجعله مصدر الأحكام اللامسؤولة. لم تبتعد الكاتبة عن الواقع في هذه القصة، حيث حضر الغاب والجبل والدواعش والشعوذة. فلا مجال للعقل في ترتيب حياتهم المبنية على ثقافة الجماعة على حساب المجتمع. بمعنى أن لا للعقل. لا للموضوعية. كل من يخالف أعرافهم متمرّد وخارج عن الملّة. تتواصل عملية الكشف وأساليب التعبير نقدا لهذا الواقع "الوسخ" حيث حضرت العلامات السريالية متمثلة في الخفاش وما ينجر عنه من أوبئة. ثم الرجل الخفاش توسلا بالخرافات دون العمل على تأكيد فن الخرافة التي تقترن عادة بالكوابيس. ربما أرادت هيام فرشيشي أن تشير إلى الفن التشكيلي من خلال لوحة "الكابوس" وغلبة الحبر الأسود على الألوان الأخرى، واستحوذ على حيز كبير من هذه النصوص المنسوجة بعناية وحرفية كبيرة براعة التحكم في خيوط اللعبة، والسير بثقة في مسالك السرد والوصف والحوار. لقد بنت هيام الفرشيشي نصوصها بعين ثاقبة.

مشاركة :