ممارسة اليقظة الذهنية ليست بالأمر الجديد؛ فهي ثقافة متجذرة في الفلسفات الشرقية القديمة مثل الطاوية، خاصة البوذية التي جعلت منها طقسًا مقدسًا شبه دائم، لكن الجديد هو تحول هذه الممارسة، في عالم الأعمال اليوم، إلى ما يشبه العبادة، ناهيك عن الإقبال الكثيف عليها. وهو الإقبال ذاته الذي دفع أشخاصًا كثيرين، من أمثال المحلل النفسي الشهير David Brendel: إلى إعادة فحص هذه الممارسة، وإخضاعها للمنطق النقدي، وما هو دفعه للإشارة إلى مخاطر ممارسة اليقظة الذهنية في العمل. لكن قبل أن نتعمق في سبر أغوار هذه المخاطر يجدر بنا القول إن هذه الممارسات لم تصبح الآن ذات صلة بهذه الأصول الدينية أو الفلسفية التي تحدّرت منها، وإنما أقرب إلى كونها ممارسة علمانية، ناهيك عن أنها أمست في عصر الهشاشة سلعة رائجة، ومن الغريب، كما يحلل جيل ليبوفتسكي في كتابه «عصر الفراغ»، أن يشهد عصر ما بعد الحداثة انبعاثًا جديدًا لمثل هذه الأفكار ذات الأصول الشرقية القديمة. ومرد ذلك، كما نعلم، هو هشاشة إنسان القرن الحادي والعشرين، أسير مجتمع الاستهلاك، والذي لا يدري ماذا يفعل في عصر انمحى فيه كل سبيل للأمان. اقرأ أيضًا: اليقظة الذهنية كعلاج ذاتي وخلاص من الضغوطممارسة اليقظة الذهنية قد يقول قائل: ما الضرر الذي يمكن أن يلحق بي أو بعملي إن أنا جلست لعدة دقائق مسترخيًا ومدلى اليدين دون التفكير في أي شيء؟ الحق أن هذا لا شيء فيه، لكن هناك الكثير من العوامل التي تحكم مثل هذه الممارسة، أو بالأحرى التي تضمن تحقيق النفع منها وتجنب الضرر، ومن هذه العوامل: الوقت/ الموقف الذي تمارسه اليقظة الذهنية فيه؛ إذ لا يعقل أن تكون هذه الممارسة نوعًا من الهروب، كما يشير ديفيد بريندل. غير أن تأمل الممارسات البوذية، التي نبعت منها ممارسة اليقظة الذهنية، يشير إلى أن هذه الممارسات لا هدف منها سوى الهروب الممنهج من العالم؛ فاستغراق البوذي في التفاصيل الصغيرة جدًا مثل: تنفسه، رباط حذائه (قلما يرتدون أحذية، في الحقيقة غالبًا ما يفضلون الخفاف المفتوحة من كل الجوانب)، حبات الأرز في طبق غذائه، ما هو إلا محاولة للهروب من التفكير في الأمور المقلقة والكبيرة، ولك أن تتخيل مدى الضرر الذي قد يحلق بالعمل إن أنت مارست اليقظة الذهنية على هذا النحو. تشير ممارسة اليقظة إلى مجموعة من الأنشطة والتمارين التي تُركز عقل الفرد على تجربة اللحظة الحالية، واستبعاد تدفق الأفكار المتنوعة، وشرود الذهن الذي يحدث بشكل طبيعي. عادةً ما تتضمن ممارسة اليقظة نوعًا من التأمل، مع أو بدون موضع روحي.المخاطر المحتملة في مطلع هذا الجزء لا نبغي أن نكون متعصبين أو متحاملين ضد ممارسة اليقظة الذهنية، فهي تنطوي على بعض الفوائد مثل التقليل من الاكتئاب، والتركيز على الوضع الراهن، ومساعدة المرء في الانخراط في عمله بشكل كامل، غير أن لها مخاطر أيضًا، تلك المخاطر التي سيحاول «رواد الأعمال» رصدها على النحو التالي:تشكيل ذكريات كاذبة في دراسة حديثة نُشرت في مجلة Psychological Science، وجد فريق الباحثين، بقيادة عالم النفس برنت ويلسون؛ أنه بعد 15 دقيقة فقط من ممارسة اليقظة الذهنية الذي يتضمن تمرين التنفس الموجه، كان المشاركون أكثر عرضة لتكوين ذكريات خاطئة. وليس هذا بمستغرب في الواقع، طالما فهمنا أن هذه الممارسة هدفها الهروب من موقف ما، أو من نمط معين من الأفكار، وإنما تتجلى خطورة هذه الذكريات الكاذبة في أنها قد تدفع المرء إلى عيش حياة متخلية لا تمت للواقع بصلة. اقرأ أيضًا: 5 رائدات أعمال حوّلن سرطان الثدي إلى قصص نجاح ملهمةالتخلص من الأفكار الإيجابية قد يبدو هذا غريبًا؛ إذ إن الهدف الأساسي من ممارسة اليقظة الذهنية هو استبعاد الأفكار السلبية من الأساس، لكن المخاطر لم تزل قائمة؛ إذ يمكن للمرء، في غمرة محاولته التخلص من أفكاره السلبية، وإقامة فاصل بينه وبينها مثل كتابتها على ورق وإلقائها في سلة المهملات، أن تتعرض أفكاره الإيجابية لعملية المحو هذه أيضًا. فضلًا أن هذه الأفكار التي يتم التخلص منها، خاصة إذا كانت إيجابية، يمسي من الصعب جدًا استخدامها عند التفكير العقلي الممنهج.الهروب من المواقف الصعبة إذا كنا نتحدث عن مخاطر ممارسة اليقظة الذهنية فهذا أخطرها حقًا؛ إذ تغذي هذه الممارسة بأصولها البوذية (كما أسلفنا قبل قليل) فكر الانفصال عن العالم، عن كل ما يزعجنا، عن المهام الصعبة التي علينا إنجازها، إنه انفصال ممنهج عن العالم، وغاية ما تسعى إليه البوذية الوصول بالمريد إلى الحالة التي لم يعد له أدنى صلة فيها بالعالم. اقرأ أيضًا: انظر حولك.. كيف تتعلم من أخطاء الآخرين لإنجاح مشروعك؟مخاطر نفسية وجسدية في ورقة بحثية نُشرت في عام 2009 في Advances in Mind-Body Medicine، قدم فريق بحثي بقيادة عالمة النفس كاثلين لوستيك مراجعة متعمقة لدراسات ممارسة اليقظة التي أبلغت عن آثار جانبية ضارة بالمشاركين، وتوصل الفريق إلى أن هناك قائمة كاملة من الآثار النفسية والجسدية التي تنجم عن ممارسة اليقظة الذهنية. ومن بين هذه الآثار: تبدد الشخصية؛ أي الشعور بالانفصال عن العمليات العقلية أو الجسد، والذهان (فقدان الاتصال بالواقع)، بالإضافة إلى الأوهام والهلوسة، والكلام غير المنظم، ومشاعر القلق، وفقدان الشهية، والأرق. اقرأ أيضًا: إدارة النفس قبل فريق العمل.. استراتيجيات تحقيق الهدف سوزان سيناترا: سرطان الثدي رسم طريقي إلى ريادة الأعمال الصراحة في العمل.. متى وكيف؟
مشاركة :